الأستاذ عبدالله عبداللطيف العثمان

المرحوم عبدالله عبداللطيف العثمان إبان شبابه

الدرس الأخير

 

يداه ترتعشان . لم يشعر يوماً بمثل هذا الخوف ينتابه حتى عندما كاد سمك القرش يقتلع ذراعه أثناء بحثه عن اللؤلؤ وحيداً بين يدي رب العالمين يرجو رحمته في جوف البحرالأزرق. كان شاباً قوياً حينها في بداية سعيه لطلب الرزق الحلال في العلم  و المال على حد سواء . فهو منذ أن كان شاباً فتياً عرفه الناس رجلاً عصامياً بحق سلك طرقاً عديدة و شق طرقاً أخرى بنفسه واضعاً دوماً نصب عينيه مرضاة الله عز و جل في أي طريق يتبعها قلبه, و هكذا كان .  فمثلما أحسن عبدالله الظن في ربه أحسن الله عز و جل إلى عبده فرزقه المال و البنون زينة الحياة الدنيا ليستمتع بها في الحلال و قد فعل . لكن لم الآن ؟ لم هذا الخوف يتسلل إلى قلبه في هذه اللحظة بعد أن أدرك سن الخامسة و الستين يجلس وحيداً في مكتبه يحدق في ورقة بيضاء تنتظربفارغ الصبر معانقة قلم صاحبها العزيز.

هو الدرس الأخير له كمعلم يهديه لأعز طلبته على قلبه ,أبناؤه السبع و الثلاثون . ربما هو قلب المؤمن أو خوف الأب أو كلاهما معاً لكنه يخشى أن لا تمهله الحياة ما يكفي من الوقت ليكون موجوداً في كل اللحظات التي سيحتاجه فيها أي من أبنائه إلى أب يحميه و يرعاه و ينقل له تجربته في الحياة بحلوها و مرها. أن لا  يكون موجوداً ليجيب عن تساؤلاتهم الطفولية و يدافع عن الخيارات التي اتخذها في حياته و تحت أي ظروف اتخذها . أن لا يكون موجوداً لينال اللوم و العتاب و المحبة و الثناء من أبناءٍ أحبهم وعشقهم على حد سواء رغم غيرة الأخوة التي قد تعميهم أحياناً عن رؤية مدى صدق محبته لهم . أن لا يكون موجوداً حين تأتي تلك الفرصة الثانية التي يعوض فيها كل أب عما قد ارتكبه من أخطاء غير مقصودة في حق أي من أبنائه . أياً كانت مخاوفه لا بد له أن يواجهها الآن فيستعين بالله عز و جل كما استعان به في جوف الظلام و هو يصارع فك القرش المغروس في كتفه . رفع عبدالله رأسه إلى السماء , توكل على الله ثم حمل قلمه المنزوي في جيبه بأصابع يده اليمنى و بأنامل يده اليسرى أدنى الورقة البيضاء إليه بروية و في قلبه شفقة لعظم المسؤولية التي ستحملها تلك الورقة البيضاء على عاتقها لسنين قادمة ثم خط عليها أول سطر في وصيته :

بسم الله الرحمن الرحيم

 

*****

في حياة كل إنسان تأتي اللحظة التي يختزل فيها كل ما تعلمه و كل ما آمن به طوال سني عمره في ورقة واحدة تحمل اسمه و إرثه . و حين يكون الموصي هو الأب لأبناء لم يبلغ معظمهم سن الرشد فالوصية في هذه الحالة هي اختزال لكل الدروس و القيم التي اكتسبها من تجاربه في الحياة و ينوي غرسها في أبنائه في حال أراد الله سبحانه و تعالى أن يطيل في عمره , و من هذا المنطلق جاء أمر الله سبحانه و تعالى بوجوب كتابة الوصية .  فالوصية لا تقتصر وظيفتها و وجوبها على المسؤولية المادية فقط  بل هي في روحيتها وثيقة أخلاقية يراد منها أن تكون كلمة الموصي وشهادته الأخيرة في الدنيا قبل أن يفارق أهله و ينتقل إلى جوار ربه . و قد ضرب الله سبحانه و تعالى لنا مثلاً في كتابه الكريم في فضل الوصية من الناحية الأخلاقية ألا و هي وصايا لقمان لولده . فتلك الوصايا هي دروس تربوية و أخلاقية تركها لقمان الأب لابنه ذخراً له يعينه على النجاة في الدنيا و الآخرة في تجسيد حقيقي لماهية دور الأب و مسؤوليته تجاه أبنائه , دور الأب المعلم و الناصح و المرشد . لذا لم الاستغراب إن وجدنا أن بقدر حب الأب لأبنائه بقدر ما يشق على الأب كتابة الوصية خوفاً من أن يغفل أو ينسى أو ينتقص حق أحدهم في كلمة جاءت بنقصان أو زيادة .

لكن و كما هي الحال مع كل أمر من أمور الدنيا فالخوف و المشقة غولان لا يضنيهما إلا الإيمان و العلم.  و إن كان إيمان المسلم  , و هو و  الحمدلله على ما منَّ به علينا من نعمة الإسلام أمراً مفروغاً منه في المطلق,  فالعلم زادٌ لا بد أن يستزيد به المسلم سعياً و عملاً من المهد إلى اللحد حتى يقترن إيمانه بالعمل الصالح  فتستقيم أموره في الدنيا و الآخرة بإذن الله عز و جل . و لإن الإسلام ما جاء إلا شريعة للحياة فقد احتل العلم الشرعي محل المنارة في بحر العلم لما يتوقف على الاستدلال بها في كل شأن من شؤون الدنيا مدى مقاربتنا لما أمر به الله سبحانه و تعالى و ما أوصى به رسوله الكريم في سبيل ان نصل بأنفسنا ومن نحب إلى بر الأمان . و للأسف نجد أن هذا الجانب شبه مفقود في تعليمنا الحالي في زمن نحن في أمس الحاجة إليه إذ يشب الكثير من أبنائنا و نحن من قبلهم دون أن نعي العديد من الأحكام الشرعية المنظمة لكافة شؤون حياتنا فيتصرف العديد منا على غفلة من أمره في أمور دنياه  دون أن نعي عواقب ما نفعل . لذا و طالما أننا ارتضينا الإسلام ديناً و هو مصدر أساسي من مصادر التشريع  لم لا نهتدي بهدي آبائنا  و أجدادنا فلا يقتصر تدريس العلم الشرعي على طلبة المعهد الديني بل يتم تقنينه بما يناسب بقية  مجاميع الطلبة فيأخذ حيزاً أساسياً في منهاج التعليم العام إلى جانب كل العلوم الأخرى بحيث يتخرج الطالب من نظام التعليم أيا كان الفرع العلمي الذي اختار و هو على دراية كاملة بأمور دينه و أحكامه . فها هوعبدالله العثمان حين بدأ كتابة وصيته في تلك اللحظة الحرجة من حياته حرص أن يستدل في كل كلمة يكتبها بما منَّ عليه الله سبحانه و تعالى من علم شرعي بدأ يغترف من خيره منذ أن كان طالباً في مدرسة المباركية يتلقى أصول علم الفرائض و المواريث من خيرة رجال الدين و العلم في الكويت, و لولا ذلك لربما ضاعت حقوق و حرفت وصايا مغبة الجهل و الاتكال على سؤال الآخرين في كل صغيرة و كبيرة .

*****

 

ما هو أول ما أوصي به أبنائي إن أردت لهم الخير في الدنيا و الآخرة ؟

 

أبدأ وصيتي بقوله تعالى (يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون)

و ما هو خير و أبقى من أن يستهل أبٌ وصيته لأبنائه بوصية سيدنا ابراهيم عليه السلام لبنيه . أن يستعين المرء بدينه فيستسلم لقضاء الله عز و جل مهما حل به من مصاب جلل, أن يتمسك بصخرة الإيمان فيعتصم بحبل الله مهما غمرته أمواج الفتنة من زينة و شقاق ,  و حين يغرق في ظلمات النفس فيرتكب الخطايا و المعاصي  يرفع رأسه المثقل باليأس إلى السماء فيرى نور ربه يتجلى في رحمته فيسجد لله تائباً راجياً مغفرته و عفوه .  هو الإسلام بني فلا تتخل عن هديه مهما بلغ بك الحال في الدنيا من غنى و فقر , من صحة و مرض و من سعادة و شقاء .

*****

 

وأقول أن ثلث مالي العام تتولى عليه دائرة الأيتام في الكويت بصفتها دائرة حكومية و ذلك بالاشتراك مع الصالح من ورثتي لتنميته والإنفاق من إيراده في سبيل الخير وللمشاريع الخيرية سواء في الكويت أو في البلاد العربية والبلاد الإسلامية

 

 

إن ثلث مالي يرفع منه نفقات بناء المساجد الآتية :

أولاً :    جامع ضيعة بحمدون و له أيضاً مبلغ مائة و خمسين ألف روبية يشتري بها وقف عليه في لبنان وريع هذا المبلغ يدفع منه راتب للإمام و راتب للمؤذن و راتب للخادم و ما تبقى سنوياً تحتفظ به أوقاف لبنان لتنميته  و لأخذ عقار تابع للجامع كوقف أيضاً

ثانياً :    جامع النقرة الذي في محلة بيوتنا يتم بناؤه درجة أولى و يسلم لدائرة الأوقاف بالكويت.

ثالثاً :    جامع في خيطان يتم بنائه درجة أولى و يسلم لدائرة الأوقاف في الكويت."

كيف للعبد الفقير أن يبر ربه الذي أوسع في رزقه و بارك في ماله حتى أصبح حديث الناس قاطبة في حياته و مماته ؟

هو الإحسان إلى الناس و البر إليهم فيما ينفعهم و حفظ حقهم في وصيته و ماله . فالحمدالله الذي أنزل الميراث في كتابه الحكيم بالأنصبة و القوانين بما يكفل حق كل وارث فيما يرث بالعدل المبين .  و كما كفل الله عز و جل حق الوارث كان من رحمته تعالى أن كفل حق المورث في التصرف في ثلث ماله بما يرى فيه قضاء مصلحته وفقاً للأحكام الشرعية . و هكذا سخر عبدالله ثلث ماله عملاً صالحاً في سبيل الله لا ينقطع إلا بمشيئته سبحانه فكان أول ما بر به الله و أحسن به إلى الناس عمارة الجوامع .لكن لم كان حريصاً في وصيته أن يكون في ثلث ماله نصيب واضح في عمارة المساجد فيما يتعلق بالنفقات و تحديد المناطق التي أوصى أن يبنى على أرضها هذه الجوامع ؟

يعود عبدالله في ذاكرته إلى الوراء حين كان صبياً قبل أن تفتح المباركية أبوابها للدراسة . كانت حينها الجوامع هي مراكز العلم التي يعلى فيها اسم الله و يتعلم فيها المسلمون أمور دينهم و دنياهم . كانوا صبية و شباباً و شيباً و كهولاً  كلهم يتحلقون حول شيخهم ينهلون مما اصطفاه الله به من علم و معرفة في علوم الدين و الدنيا . و في وسط هذه الحلقة  يجلس الشيخ و الإمام  ليمارس دوره الحيوي في تربية النشئ من أفراد مجتمعه على الأخلاق و القيم سواء بالعلم أو بإرساء القدوة الحسنة. و لعلمه بمدى تأثير بناء الجامع كركيزة من ركائز بناء المجتمع الصالح جاءت وصيته ببناء الجوامع في منطقتي النقرة و خيطان . إلا أن أول جامع أوصى ببنائه و إقامته هو جامع ضيعة بحمدون في لبنان الذي لم يوص فقط باقتطاع المبلغ المطلوب لبنائه بل خصص له مبلغ 150 ألف روبية كوقف يدفع من ريعه راتب الإمام و المؤذن  و الخادم . و قد انبثقت رغبة عبدالله العثمان في بناء جامع في لبنان لما تحتله تلك الدولة من معزة خاصة في قلبه يشاركه فيها جميع أطياف الشعب الكويتي لما يتصف به شعبها من كرم و طيب الضيافة في طبيعة خلابة ألهمت أبناءها الإبداع و التنور الثقافي و حب الحياة .

المحسن الكبير عبدالله العثمان إبان جولته الخيرية في أحد مدارس لبنان برفقة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رشيد كرامي

 

المرحوم عبدالله العثمان في ضيافة إحدى الجمعيات الخيرية في لبنانالمرحوم عبدالله العثمان في ضيافة رئيس الكتائب الزعيم اللبناني الراحل بيير الجميل

المرحوم عبدالله العثمان يلقي خطبته أثناء حفل افتتاح جامع العثمان في بحمدون عام 1957

 

 

لكن لبنان في ذاكرة عبدالله العثمان هي اكثر من مجرد دولة استمتع بطبيعتها و جود أهلها . لبنان التي تحيا في ذاكرته هي لبنان مصيف العائلة التي اعتاد أن يأخذ كل أولاده إليها لقضاء فترة الصيف و الاستمتاع بما أنعم الله به على أبيهم من وجاهة و سعة في الرزق. لبنان التي أحب و عشق هي لبنان التي ستبقى جزءاً لا يتجزأ من تاريخ أبنائه و أيامهم معه و التي حرص أن يظهر فيها قدر المستطاع مدى حبه لهم    و أن كل ما صنع من مال و ثروة أنما هو لهم . لكن حتى في لبنان لم يشأ عبدالله أن يقترن وجوده هناك في وعي أبنائه على عيش مظاهر الترف و الرفاهية , بل كان لا بد من أن يعي أبناؤه أن مع نعمة المال و الجاه تأتي المسؤولية الأخلاقية في تسخير هذه النعم في إعلاء كلمة الله فجاءت وصيته في بناء جامع في ضيعة بحمدون الواقعة في جبل لبنان كأول جامع إسلامي يبنى في منطقة تتمتع بالهوية المسيحية والدرزية . و رغم اطمئنان عبدالله إلى كتابة هذا البند في وصيته فإن هذا لم يدفعه أبداً إلى المماطلة في تحقيقه و هو على قيد الحياة و قد كان للنهج الذي اتبعه في بنائه الأثر الكبير في تبيان مدى سماحة الدين الإسلامي في درسٍ سيبقى دائماً راسخاً في ذاكرة أبنائه متى ما تحدثوا عن إرث أبيهم .

كيف لك أن تسخر ما أسبغه الله عليك من نعم المال و الجاه في سبيل طاعة الله سبحانه و تعالى دون أن تعتدي على حقوق عباده حتى و إن اختلفوا معك في الدين  و المذهب ؟

هو التسامح و المحبة و الاحترام . فحين أعلن عبدالله العثمان رغبته في بناء الجامع في منطقة جبل لبنان حدث المتوقع من إثارة بعض أهالي المنطقة رفضهم لهذا الأمر و ذلك ليس بالمستغرب في دولة عاشت انقساماً طائفياً حاداً تجلت صوره بين حرب  و نزاع و كانتونات مذهبية . لكن عبدالله الذي نشأ في وطن عهد منذ ولادته الانفتاح و المساواة و احترام اختلاف الآخر ما كان لينسحب مبكراً من مواجهة هذه العقبة .  و لا بد أنه أدرك بقراءته للتاريخ أن مخاوف أي مجتمع من الآخر إنما تغذيه تعنت كل طرف  في موقفه لذا ارتأى عبدالله العثمان أن يعالج هذا الموقف اهتداءً بهدي الرسول صلى الله عليه و سلم في تعامله مع أهل الكتاب . فجاء قرارعبدالله العثمان بترميم الكنائس المقامة في المنطقة من حسابه الخاص كما و أجزل في العطاء  و منح التبرعات لدور الأيتام التابعة للجمعيات المسيحية رغبة منه في تبديد أي مخاوف قد تعتري قلوب أهل المنطقة من بناء الجامع على أرضهم كغطاء لاغتصاب ثقافتهم و تاريخهم ,  فالإسلام ما كان يوماً إلا ديناً قائماً على احترام الإنسانية. و هكذا نجح عبدالله العثمان في الامتحان و بدأ بعمارة الجامع بموافقة أهل المنطقة  و رضاهم ليعلو صوت الأذان في سماء جبل لبنان للمرة الأولى في تاريخ هذا الجبل العريق . و حين اشتكى بعض ساكني القرى المحيطة بالجامع من صوت الأذان , عوضاً عن أن يتجاهل شكواهم فيختلق بذلك مواجهة ستتسم حتماً بالطائفية عرض على أهل المنطقة شراء كل الأراضي و العقارات المحيطة بالجامع و التي يصل إليها صوت الأذان بضعف ثمنها وتم له ذلك . و لا يزال الناس في لبنان حتى وقتنا هذا يذكرون هذا الوجيه و المحسن الكبير الذي نال محبتهم و احترامهم  و ضرب على أرضهم مثلاً مشرقاً على إمكانية التعايش المشترك القائم على التسامح و المحبة.

المرحوم عبدالله العثمان مع أبنائه إبان حفل وضع حجر أساس جامع صيدا عام 1962

 

المحسن الكبير عبدالله العثمان  مع أبنائه إبان حفل وضع حجر أساس جامع صيدا عام 1962

الجامع الذي  تولى إعماره المرحوم عبدالله العثمان في صيدا

 

 

******

 

تعيين ثلاثمائة ألف روبية تابعة للغرفتين اللتين لنا في المستشفى الأمريكاني و يتولى هذا المبلغ دائرة الأيتام في الكويت لتنسيقه على أن تدفع من أرباحه نفقات علاج المرضى من فقــراء الكويت المعوزين الذين يريدون علاجه في المستشفى المذكور حسب رغبتهم و لا يمنعون عن ذلك.”             

إن أردت الخير للناس فابحث عما ينفعهم في مالك و اختر لهم سبيلاً تفرج فيه عن كربهم و مصابهم دون أن ينال من حقهم أحد .

 

هو مبدأ التكافل الاجتماعي . فإذا ما رزق الله سبحانه و تعالى عبداً من عباده و أوسع في رزقه فإن للوطن و المجتمع على هذا العبد حقٌ معنوي في مد يد العون لمن هم في أمس الحاجة إليه . و إن كانت الصدقة على الفقراء و المساكين من حيث المبدأ هي  نهر جارٍ من العطاء إلا أن تقنين جزء من هذه الصدقات الموزعة عشوائياً حسب حاجة الأفراد في مختلف أمور الحياة و توجيهها في سبيل توفير خدمة متكاملة تخدم جزءاً كبيراً من المجتمع هي من أبهى صور العمل الخيري . و تتعدد أمام الموسر سبل الخير و تتقاطع و عليه هو أن يحدد ماهية الخدمة التي يحتاج إليها مجتمعه و فقاً لظروفه. و ما هو أهم من تلبية حاجة انسان ابتلي في أعز نعمة من نعم الله فلا يجد ما يستوفي به حاجته من الرعاية الصحية و الدواء , أو أب يرى ابنه و قد نال منه المرض و هو عاجز عن تأمين ما يخفف به ألمه . لهذا كان و ما زال القطاع الصحي من القطاعات التي دوماً ما تستوجب مد يد العون من الموسرين في سبيل توفير العلاج المجاني لمن هم في حاجة إليه كحق من حقوقهم الإنسانية.

و ها هو عبدالله يحرص في وصيته أن ينال هذا القطاع الحيوي نصيبه من المال والإدارة. و لم يكن هذا القطاع بالغريب يوماً عليه فقد كانت تربطه بأطباء الإرسالية الأمريكية علاقة يشوبها الود و الاحترام تجاوز فيها عبدالله عائق اللغة بعد أن تعلمها و أصبح لاحقاً معلماً لها في مدرسته . فقد اعتاد أن يزور أطباء الإرسالية و يتعلم منهم ما تيسر له من أصول التداوي و أثر بعض الأدوية حتى إذا ما أنعم الله عليه أسس صيدلية له في بيته خصصها لمساعدة المحتاجين دون مقابل  . و قد يكون لما تعلمه من اتصاله بالأطباء و معايشته لهموم الناس التي توافدت عليه طلباً للدواء النصيب الأكبر في تحديده لماهية الخدمة الصحية التي سيذكرها في وصيته . فالعلاج لا يكمن فقط في توفير الدواء المطلوب إنما هو عبارة عن توفير خدمة متكاملة نوعية تشمل كافة أوجه الرعاية الصحية من سبل التشخيص و التمريض و العناية الطبية السريرية . لهذا كله جاءت وصيته في تعيين مبلغ ثلاثمائة ألف روبية تتولى إدارتها دائرة الأيتام فينفق من أرباحها على الغرفتين اللتين تكفل بهما عبدالله العثمان في المستشفى الأمريكاني لعلاج المرضى المعوزين علاجاً طبياً نوعياً لا يقل عن نوعية العلاج المقدم لغيرهم من المرضى الموسرين.

*****

فإن كان هذا بر و إحسان إلى الغرباء أولا يكون لأهل القربى نصيب أيضاً ؟

 

تعطى الأخت طرابة أرض في النقرة مساحتها سبعين فوت طول في سبعين فوت عرض و يعين لها مبلغ أربعين ألف لبناء البيت. يوزع مبلغ مائة ألف روبية على كل من الأخوات طرابة و موضي و شيخة و سارة و لطيفة بنات عبداللطيف العثمان . "

 

بلى . فأن تصل رحمك لهي عبادة عظيمة تعلي من شأن صاحبها في الدنيا و الآخرة. و قد حرص عبدالله أن يبر بأهله و على الأخص بأخواته بعد مماته كما برهم في حياته حتى لا تضام إحداهن من بعده في حاجة. فعمل على أن تنال كل منهن نصيباً مناسباً من ماله  و إرثه حتى و إن لم تكن بالضرورة في حاجة إليه إلا أنه خوف الأخ و عاطفته المحبة لأخواته التي لا بد لكل أخ أن يظهرها لأخته و لورثته من أهله حتى يستدل الجميع على معزتها عنده فتحفظ كرامتها و تصان  . فمن طبيعة الأخت أن ترى في أخيها صورة الأب الحامي لها حتى إذا ما توفي الأخ كانت الأخت أكثر من يفجع بفقدانه و كأنها فقدت في رحيله السند الذي لن يعوض عن فقدانه أحد .

*****

 

" و تسقط الديون من الألف روبية و نازل التي على المديونين "  

إن كان لك دين عند الناس فهو أحد اثنين . إما دين لسد الحاجة في وقت العسر أو دين تجاري يتعلق بأمور السوق من بيع و شراء .

 

أما دين العسر فهو دين أعطي لسائله بنية قضاء حاجة ألمت به في وقت عسرة و ما كان له من باب يطرقه إلا باب الدين فطرق بابك . فإن ارتضيت إقراضه فكن محسناً في إقراضك له فلا تطرق بابه طالما هو في عسرته و يسر له السداد . و احرص على أن يكون للمدينين في وصيتك نصيب فافرج عنهم كربهم و أسقط عنهم دينهم بما يتيسر لك فلا تعتدي بذلك على حقوق ورثتك في مالك . أما ما خرج من مالك من قرض مقصده تمويل تجارة فهو حق لا بد من استيفائه لأنه قرض يرتبط بحقوق الناس و ما أخذه طالبه إلا بنية العمل به في السوق و التربح منه على مسؤوليته هو عالماً منذ البداية بمخاطر العمل في التجارة.

 

*****

 

" بأن تتولى دائرة الأيتام في الكويت على أموال القاصرين من الذرية و الوارثين وتنمية أموالهم حتى يبلغوا رشدهم و يكونوا أهلاً لتولية المال  وحسن التصرف فيه على أن ينفق عليهم في حال القصر نفقة تليق بهم بدون تقتير و يكسون كسوة تليق بهم و ترضيهم . "

 

إن كان لك من الأبناء من لم يبلغ بعد سن الرشد فمن هو الأنسب ليحتل منصب الوصي على أموالهم حتى يبلغ الواحد منهم السن القانونية و يستلم نصيبه من تركته .

جرت العادة أن يختار الموصي من يجد فيه صفات الامانة و القدرة على تحمل المسؤولية ليكون قيماً على أموال وارثيه طالما هم قصر . لكن عبدالله الذي قضى فترة طويلة من حياته في العمل في البلدية تدرجت مسيرته فيها من كاتب إلى المدير أدرك ببعد نظره مدى أهمية العمل المؤسساتي التابع للحكومة . فأي مؤسسة تتبع الحكومة هي مؤسسة تجمع بين القدرة الإدارية و السعة المحاسبية و الصفة الرقابية . لذا جاء قراره بتعيين دائرة الأيتام في الكويت بصفتها الحكومية وصياً يتولى مهمة إدارة الثلث في وصيته قراراً صائباً و إن شاب تنفيذه على الأرض بعض المشاكل و العراقيل المتعلقة بشخص بعض من تولوا الإدارة و عملوا فيها لا في نهج المؤسسة ككل و المشهود له بالكفاءة . و قد صب هذا القرار أولاً و أخيراً في صالح حماية أبنائه فتتولى شؤونهم مؤسسة حكومية تتبع في عملها الإجراءات و القوانين المرعية ضمن قرارات موثقة في السجلات العامة و يمكن دائما ً العودة إليها  و محاسبتها في حال التقصير أو الفساد , و هو ما كان سيصعب عمله في حال تولى فرد بعينه الوصاية الكاملة على المال و الذي دائما ما ستخضع قراراته للأهواء و الضغوط العائلية و الشكوك من قبل الورثة مما من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة العائلة  و تفككها. و لم يترك عبدالله قراره بتعيين دائرة الأيتام وصياً على ماله دون إرشادات واضحة و صريحة فيما يتعلق بماهية الإنفاق على القصر من ورثته . فكان حريصاً أن يحدد باللفظ الصحيح و مفردات اللغة المناسبة التي لا يمكن الالتفاف حولها مسؤولية دائرة الأيتام في الإنفاق على أبنائه " نفقة تليق بهم بدون تقتير و يكسون كسوة تليق بهم  و ترضيهم " . و قد كان للعلم الذي اكتسبه عبدالله العثمان في علوم اللغة العربية سواء مما اكتسبه في مدرسة المباركية أو أثناء حضوره مجالس العلم في بيت الشيخ محمد عبدالرحمن الفارسي رحمه الله  الدور الأكبر في إدراكه لمدى أهمية استخدامه لمفردات اللغة في كتابته لوصيته و إغلاق باب الاجتهادات و حفظ نية الموصي فيما وصى من عبث الوصي و محاولات الاجتهاد   و الالتفاف القانوني حول بنود الوصية . فلو أن عبدالله اكتفى بذكر النفقة و الكسوة دون تحديد لماهيتها متكلاً على حسن نية الوصي أياً كان في التزامه بروح الوصية لاكتفى الوصي بالنفقة و الكسوة التي تسد الحاجة الإنسانية الأساسية حتى و إن عنى ذلك أن ينال القصر من الأبناء أرخص الرخيص من الطعام و الملبس و غيرها من الأمور المعيشية و لما استطاع أحد أن يجادل الوصي فيما يفعل لالتزامه بالنص الحرفي للوصية و هو في النهاية ما يحاسب عليه القضاء . و إن حرص عبدالله أن يؤطر وصيته بسور لغوي قانوني يحمي أبناءه من اعتداء الوصي فهو ليس تشكيكاً في نية الوصي و عمله بل هو في المقام الأول إعانة له على القيام بواجبه على أكمل وجه فلا يشوب عمله ظلم  و افتراء.  و هذا في النهاية هو واجب الأب ,  أن يحمي أهله و أبناءه حتى بعد وفاته من ظلم الأقربين و الغرباء على حد سواء فلا يتركهم عرضة لأهوائهم و رجاء رحمتهم  . 

*****

" ما تبقى من الثلث تتولى عليه دائرة الأيتام في الكويت على أن توزع ثلثي أرباحه سنوياً على الورثة للذكر مثل حظ الأنثيين _ ومتى ما نكب أحد الورثة في ماله أو احتاج لا سمح الله يعطى من أصل الثلث حسب حاجته و هذا إذا كان صالحاً لم يبذر أمواله في طريق الشر والفساد. أما الثلث الباقي من الأرباح يوزع للمشاريع الخيرية."

إن أردت أن تعين ابنك على الدنيا فأعنه بما ملكت على فعل الخير ,  و اردعه بما استطعت عن فعل الشر .

 

لا تخلو حياة أي امرئ من نكبة تصيبه في ماله أو وقت عسرة يحتاج فيها إلى مال يسعف فيها حاجته و ضرورته . و لخشية عبدالله أن يمر أحد أبنائه و ورثته  في هذا المصاب و لا يكون حياً فيقف إلى جانبه فقد وضع هذا الاحتمال في الحسبان عند كتابته للوصية فأراد أن يضمن حق ورثته في أصل الثلث المتبقي من تركته فيعطى منه حسب حاجته . لكن عبدالله المعلم يعي تماماً أن كما على المربي أن يجزل في العطاء لطلبته الملتزمين خلقاً وعلماً فعليه أيضاً أن يردع بالعقاب و الحرمان أولئك من ضلوا السبيل حتى يشاء الله سبحانه و تعالى و يعودوا إلى طريق الصواب.        و هكذا كان عبدالله مع أولاده في وصيته فاشترط فيمن يطلب سد حاجته من أصل الثلث الصلاح و عدم تبذيره لأمواله التي ورثها في طرق الشر والفساد . فإن جاءت حاجته من تبذيره لأمواله في غير سبل الخير فعليه إذن أن يتحمل هو مغبة قراراته   و اختياراته في الحياة فلا يجعل من مال الثلث المخصص لمشاريع الخير منبعاً يغرف منه بلا حساب في الطريق الخطأ التي اختار .

 

*****

سهام و فوزية و أسماء و ليلى يكن تحت ولاية عمهم عبدالعزيز عبداللطيف العثمان ينفق عليهن ويكسوهن من مالهن و يزوجهن حسب اجتهاده من أولاد أعمامهن إذا كانوا رجالاً صالحين أو من الخارج و من بعد عمهن أخوهن سليمان إذا كان صالحاً لذلك أو أخوهن نوري.

أولاد شيخة صالح الهديب هي التي تقوم بتربية أولادها و بناتها و ينفق عليهن ويكسوهم من مالهم ويزوجون بناتها بمشورة عمهن عبدالعزيز وأخوهن سليمان  و نوري – برجال صالحين من أبناء أعمامهن أو من الخارج – أولاد أعمامهن لهم الأفضلية إذا كانوا صالحين

أولاد أمينة بنت صالح السويلم هي التي تقوم بتربية أولادها و بناتها و ينفق عليهم وتكسوهم من مالهم ويزوجن بناتها كما تقدم من الشرح لأولاد شيخة صالح الهديب.

أولاد رمزية توفيق هي التي تقوم بتربية أولادها و بناتها و تنفق عليهم و تكسوهم من مالهم ويزوجن بناتها كما تقدم من الشرح لشريكتيها.

كل أب في حياته أن سألته من  أكثر من تحمل همهم من أبنائك و تخشى عليهم من غدر الزمان لأجابك و الابتسامة على وجهه و الخوف في قلبه : البنات .

 

يعلم كل أب كم هي صعبة تربية البنات في أي زمان و مكان. فمهما تطورت الحياة    و تقدمت المجتمعات تبقى الإبنة هي المعرضة أكثر لأن تكون الطرف الأضعف في عائلتها و التي يسهل إجبارها و إيقاع الظلم بها في سبيل مصلحة العائلة خصوصاً في أهم قرار تتخذه في حياتها ألا و هو الزواج . و قد نشأ عبدالله في مجتمع قائم على عادات و تقاليد تنظم شؤون زواج الإبنة وفق الأصول المرعية . لكن خشية عبدالله الحقيقية كانت في حال وفاته أن تجبر إحدى بناته من قبل الأخ أو العم على زواج لا يناسبها . من هنا نبع حرص عبدالله على أن يذكر في وصيته صفات من يبتغي أن يكون زوجاً لأي من بناته بعد الأخذ بمشورة عمهن و أخويهم  فاشترط فيه الصلاح أولاً و إن كان من خارج العائلة مقدماً بذلك الغريب على ابن العم إن فاضله في الصلاح . و في حال تساوى ابن العم  و الغريب في شرط الصلاح فابن العم أولى بابنته لأنها بذلك ستبقى هي و أبناؤها ضمن حمى العائلة الكبيرة . يعلم عبدالله و هو يكتب هذا البند من وصيته أن النصيب و القسمة في الزواج هو من أمر القدر يعلو شأنه فوق كل رغبات البشر , لكن عبدالله لم يرد بوفاته أن يفقد حقه الأبوي في إسداء النصح لبناته و تذكيرإخوته و أبنائه بمسؤوليتهم الأخوية تجاه أخواتهم فلا يبخلوا عليهن بإسداء المشورة و النصح .

 

*****

 

العبدة غروبة و العبدة مريوم يعتقن و تعطى كل واحدة من أصل الثلث خمسة آلاف روبية و هما مخيرتين إذا أرادا البقاء عند أحد الورثة مقابل أجر يدفع لهما

 

في الحياة يشاركك أناس في القيام بأمور يومك و الاعتناء ببيتك و أهلك , فالخير كل الخير أن تبرهم و تذكر لهم عطاءهم و عمرهم الذي منحوك اياه في سبيل خدمتك  و القيام براحتك

 

هؤلاء هم الخدم أو ما كان عليه في ذاك الزمن من وجود العبيد . و ما أراد عبدالله أن ينسى حقهم في وصيته و هو الذي ما رآهم يوماً أدنى منه مرتبة في الإنسانية . و قد كان عبدالله حريصاً أن يعي أبناؤه في حياته قبل مماته أن الإسلام ما فرق يوماً بين عبد و حر و بين خادم و سيد , فالكل سواسية عند الله عز و جل في أداء الطاعات  و العبادات و في الثواب والعقاب . و في موائد الإفطار التي اعتاد أن يقيمها طوال شهر رمضان كانت مائدة الخدم و العبيد هي التي يجلس إليها عوضاً عن بقية الموائد احتراماً لهم و لدورهم في بيته . كذلك في أيام العيد يتشارك خدمه و أبناؤه و هو ذات نوعية الثياب و القماش فيأتي الخياط ليأخذ مقاسات الجميع في ليلة تشهد فرح جميع أهل المنزل . أما بعد مماته فقد حرص عبدالله أن تحفظ حقوق عبيده فأمر بعتق عبدتيه و إعطاء كل واحدة منهما من أصل الثلث مبلغ خمسة آلاف روبية . و لأن معظم العبيد تبدأ حياتهم في خدمة المنازل منذ سن صغيرة فلا يعرف أحدهم من بيت غير الذي خدم فيه فقد أوصى عبدالله أن تخير كل من عبدتيه في حال أرادت البقاء عند أحد الورثة على أن تكون خدمتها في المنزل الذي تختار مقابل أجر يدفع لها . و لوعلم الناس مدى جزاء الإحسان إلى الخادم الضعيف لما ظلم أحدهم خادماً و لما أهانه و لما أكل حقه في أجره و تعبه

*****

كاد الدرس الأخير أن ينتهي و عبدالله يشعر بخوف أكبر مما انتابه عند بداية كتابته للوصية . هل نجح في حماية أبنائه و أهله من تقلبات الزمان ؟ هل سيقوم كل من أوكله بمهمة بمسؤوليته كاملة دون نقصان ؟ هل سيعي كل أبنائه كل هذه الدروس دون أن يكون موجوداً في حياتهم ليشاركها معهم يوماً بعد يوم ؟  هل ستتحمل هذه الورقة  الضعيفة الماثلة أمامه كل محاولات الشد و النزاع و الالتفاف التي لا بد لكل وصية في هذه الدنيا أن تمر بها . يعود في ذاكرته إلى تلك اللحظة ذاتها في جوف البحر , تلك اللحظة التي كاد أن يفقد فيها كل شيء . قد تبلغ محاولات المرء إنقاذ نفسه و من يحب عنان السماء إلا أن رحمة الرب و مشيئته هي ما تحفظ عبده و ترد عنه القضاء و ما هو خير من استدعاء رحمة الله بصدقة تجبر بها قلب إنسان فقير    و لو كانت في شق تمرة ترم عظمه أو شربة ماء تطفئ عطشه أو كلمة تعلمها لطالب محتاج تعينه بها على أمور الدنيا دون مقابل أو أجر . هو عمل بالأسباب و أحب أبناءه كما لم يحب احداً في حياته , أحبهم و أظهر لهم حبه بقدر استطاعته و قدر معرفته رغم ما عرف عنه من حدة طبعه أحياناً في تربيته لهم  فيما كان يراه مصلحة لهم . لكن حين تأتي لحظة الموت لن يعني أيٌ مما فعل في دنياه شيئاً و ستضمحل عاطفته تجاه أبنائه في ذاكرتهم يوماً بعد يوم حتى يغرق في ظلام النسيان كما كاد أن يغرق في البحر.

إلا

إلا إن سلم أمره كله لله الواحد الأحد و استودعه أهله و ماله و وصيته و عمل في دنياه بما يرضي الله و رجاه النجاة . حينها فقط سيستمر عبدالله في حياة أبنائه كما لو كان حياً يرزق و سيبقى درسه الأخير لهم منارة تدلهم على الدرب الصحيح في الحياة.

اطمأن قلبه . أخذ قلمه و خط في نهاية وصيته :

( فمن بدله من بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه و الله سميع عليم  )

 

*****

أما أنا فأجد نفسي بعد ما يزيد عن أربعين عاماً على كتابة الوصية أتأمل بكل حرف ذكر فيها و كأن جدي لا يزال ماثلاً أمامي بكامل عنفوانه و وقاره . و قد يتساءل البعض لم الحديث عن الوصية في خضم عمل يتناول تجربة العائلة في تاريخ التعليم في الكويت عوضاً عن تناول تجربة جدي رحمه الله المباشرة في تاريخ المدرسة التي أدارها و عمل فيها . الجواب يكمن في إيماني المطلق أن رحلة العلم في حياة الإنسان أنما هي رحلة متصلة تتجسد روحها حقاً في الخيارات التي يتخذها الإنسان في حياته لاحقاً على مرحلة التعلم في المدرسة لا في كم المعلومات المخزنة في عقله كما هي حال أطنان الملفات المخزنة في أرشيف متهالك عفا عليها الزمن . قبل قراءتي للوصية و معرفتي بتفاصيلها كنت دائما أرى في جدي رجل المال الذي أنعم الله عليه بالثروة و الجاه فأورثها لأبنائه من بعده و هكذا كان , و الحقيقة أنني لطالما تساءلت بيني و بين نفسي عن سر استمرارية هذه الثروة بعد كل تلك الأعوام . لكن عند قراءتي لوصية جدي  وجدت أن أهميتها  تتعدى وظيفتها كوثيقة رسمية إلى حقيقة كونها ملخصاً لحياة إنسان و تجربته في هذه الحياة و الخيارات التي اتخذها     و رؤيته لماهية الإرث الذي سيتركه من ورائه . في كل بند من بنود الوصية تجد أن ثالوث الحب و العلم  و الإيمان هو ما أطر الخيارات التي اتخذها في حياته أما المال فما كان إلا وسيلة أو نتيجة و هذا ما نفتقده الآن في عالم التهمته الثقافة المادية  و الاستهلاكية حتى كاد أن يأتي يوم  يضحو فيه هذا العالم  بلا روح. الجميع يسعى وراء المال و الأخطر أن الجميع  يقيم حياته و حياة الآخرين وفقاً للمال و دون أن ندرك سنجد أنفسنا و قد أورثنا أبناءنا هذا الخواء و الضياع الذي يعجز عن ملئه مال الدنيا و كنوزها . و من هنا ننطلق مرة أخرى إلى التعليم و السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو هل من دور للمدرسة في خلق هذه الأزمة و هل من دور لها في حلها ؟ لم تعجز المدارس الآن بكل إمكانياتها  و مواردها البشرية و المادية في تخريج جيل يماثل الأجيال السابقة في كفاحها و إنجازاتها و نجاحاتها و إبداعاتها  و دورها القوي و الرائد في بناء مجتمعاتها؟  الجواب بقدر ما هو معقد قد يكون بسيطاً و هو أن ما تقدمه المدرسة في معظمه  ليس بعلم بل وجبة سريعة من المعلومات  و المهارات  و شتان ما بين الإثنين. فليس المطلوب فقط من المدرسة كبيئة تعليمية أن تكتفي بحشو رأس الطالب بالمعلومات حتى يأتي وقت الامتحان , بل دور المدرسة الحقيقي يتجلى في إعداد الطالب للإمتحان الحقيقي الذي سيضطر فيه أن يأخذ خيارات صعبة و مصيرية تتعلق بحياته و حياة الآخرين و تحمل نتائج خياراته الصائبة منها  و الخاطئة بعقل منفتح و قلب شجاع  . فغرس العلم وحده في عقل الطالب دون بوصلة أخلاقية توجهه لا يخلق جيلاً بناءً قادراً على بناء منزل صالح و أسرة متراصة و وطن آمن مزدهر بل يخلق قوة عاملة تخدم سوق العمل يلهث فيها الصغير قبل الكبير وراء تحقيق مصالحه الآنية و رغباته الشخصية دون مراعاة للقيم الإنسانية و الاجتماعية و الدينية . الآن  و في هذه اللحظة من التاريخ الإنساني الذي يشهد أعتى أزمة اقتصادية تكاد تعصف بكل ما بنيناه يتشارك الجميع هذا الإحساس بضياع البوصلة و نحن نقف عاجزين أمام هذا المد الاستهلاكي الذي ابتلع عالمنا تحت وهم أن المال هو ما يصنع الإنسان و يبني سعادته فغفلنا عن المعنى الحقيقي للسعادة التي أرادها الله سبحانه و تعالى لنا . الآن أرى السر في استمرارية ثروة عبدالله العثمان إلى يومنا هذا في وقت تخلق فيها ثروات و تزول في غضون أيام . السر لا يكمن في متانة الوصية من الناحية القانونية , السر لا يكمن في ضخامة الثروة كأنها نبع لا ينضب و السر لا يكمن في استثمار الأموال في صناديق " آمنة " طويلة الأمد  بل السر الواضح للعيان هي " البركة " تلك الكلمة التي كدنا نسقطها من قاموس مفرداتنا اليومية . فالله سبحانه و تعالى حفظ هذه الثروة من الضياع بمشيئته سبحانه لأنها سخرت بنية صاحبها إلى سبل الخير تجاه خدمة العائلة و المجتمع و الدين . السر يكمن في محبة العبد لله و ابتغاء مرضاته وغفرانه و التي منها تنبع المحبة الصادقة بكل صورها : حب العلم و العائلة و الناس و النفس. و حتى تعود البركة إلى كل ما تلمسه أيدينا من مال و أولاد لا بد أن تعود  المدرسة إلى دورها التربوي بغرس منظومة الأخلاق و القيم جنباً إلى جنب مع منظومة العلم حتى يتكامل التوازن الروحي و العقلي لدى الطالب فيعي سر السعادة التي سيسعى إليها غداة دخوله معترك الحياة  فيتبارك سعيه في الحياة الدنيا و تنمو معه الأسرة الصالحة و المال الحلال المبارك و الوطن العامر بالخير .