الأستاذ عبدالله عبداللطيف العثمان
الدرس الأخير
يداه ترتعشان . لم يشعر يوماً بمثل هذا الخوف ينتابه حتى عندما كاد سمك القرش يقتلع ذراعه أثناء بحثه عن اللؤلؤ وحيداً بين يدي رب العالمين يرجو رحمته في جوف البحرالأزرق. كان شاباً قوياً حينها في بداية سعيه لطلب الرزق الحلال في العلم و المال على حد سواء . فهو منذ أن كان شاباً فتياً عرفه الناس رجلاً عصامياً بحق سلك طرقاً عديدة و شق طرقاً أخرى بنفسه واضعاً دوماً نصب عينيه مرضاة الله عز و جل في أي طريق يتبعها قلبه, و هكذا كان . فمثلما أحسن عبدالله الظن في ربه أحسن الله عز و جل إلى عبده فرزقه المال و البنون زينة الحياة الدنيا ليستمتع بها في الحلال و قد فعل . لكن لم الآن ؟ لم هذا الخوف يتسلل إلى قلبه في هذه اللحظة بعد أن أدرك سن الخامسة و الستين يجلس وحيداً في مكتبه يحدق في ورقة بيضاء تنتظربفارغ الصبر معانقة قلم صاحبها العزيز.
هو الدرس الأخير له كمعلم يهديه لأعز طلبته على قلبه ,أبناؤه السبع و الثلاثون . ربما هو قلب المؤمن أو خوف الأب أو كلاهما معاً لكنه يخشى أن لا تمهله الحياة ما يكفي من الوقت ليكون موجوداً في كل اللحظات التي سيحتاجه فيها أي من أبنائه إلى أب يحميه و يرعاه و ينقل له تجربته في الحياة بحلوها و مرها. أن لا يكون موجوداً ليجيب عن تساؤلاتهم الطفولية و يدافع عن الخيارات التي اتخذها في حياته و تحت أي ظروف اتخذها . أن لا يكون موجوداً لينال اللوم و العتاب و المحبة و الثناء من أبناءٍ أحبهم وعشقهم على حد سواء رغم غيرة الأخوة التي قد تعميهم أحياناً عن رؤية مدى صدق محبته لهم . أن لا يكون موجوداً حين تأتي تلك الفرصة الثانية التي يعوض فيها كل أب عما قد ارتكبه من أخطاء غير مقصودة في حق أي من أبنائه . أياً كانت مخاوفه لا بد له أن يواجهها الآن فيستعين بالله عز و جل كما استعان به في جوف الظلام و هو يصارع فك القرش المغروس في كتفه . رفع عبدالله رأسه إلى السماء , توكل على الله ثم حمل قلمه المنزوي في جيبه بأصابع يده اليمنى و بأنامل يده اليسرى أدنى الورقة البيضاء إليه بروية و في قلبه شفقة لعظم المسؤولية التي ستحملها تلك الورقة البيضاء على عاتقها لسنين قادمة ثم خط عليها أول سطر في وصيته :
بسم الله الرحمن الرحيم
*****
في حياة كل إنسان تأتي اللحظة التي يختزل فيها كل ما تعلمه و كل ما آمن به طوال سني عمره في ورقة واحدة تحمل اسمه و إرثه . و حين يكون الموصي هو الأب لأبناء لم يبلغ معظمهم سن الرشد فالوصية في هذه الحالة هي اختزال لكل الدروس و القيم التي اكتسبها من تجاربه في الحياة و ينوي غرسها في أبنائه في حال أراد الله سبحانه و تعالى أن يطيل في عمره , و من هذا المنطلق جاء أمر الله سبحانه و تعالى بوجوب كتابة الوصية . فالوصية لا تقتصر وظيفتها و وجوبها على المسؤولية المادية فقط بل هي في روحيتها وثيقة أخلاقية يراد منها أن تكون كلمة الموصي وشهادته الأخيرة في الدنيا قبل أن يفارق أهله و ينتقل إلى جوار ربه . و قد ضرب الله سبحانه و تعالى لنا مثلاً في كتابه الكريم في فضل الوصية من الناحية الأخلاقية ألا و هي وصايا لقمان لولده . فتلك الوصايا هي دروس تربوية و أخلاقية تركها لقمان الأب لابنه ذخراً له يعينه على النجاة في الدنيا و الآخرة في تجسيد حقيقي لماهية دور الأب و مسؤوليته تجاه أبنائه , دور الأب المعلم و الناصح و المرشد . لذا لم الاستغراب إن وجدنا أن بقدر حب الأب لأبنائه بقدر ما يشق على الأب كتابة الوصية خوفاً من أن يغفل أو ينسى أو ينتقص حق أحدهم في كلمة جاءت بنقصان أو زيادة .
لكن و كما هي الحال مع كل أمر من أمور الدنيا فالخوف و المشقة غولان لا يضنيهما إلا الإيمان و العلم. و إن كان إيمان المسلم , و هو و الحمدلله على ما منَّ به علينا من نعمة الإسلام أمراً مفروغاً منه في المطلق, فالعلم زادٌ لا بد أن يستزيد به المسلم سعياً و عملاً من المهد إلى اللحد حتى يقترن إيمانه بالعمل الصالح فتستقيم أموره في الدنيا و الآخرة بإذن الله عز و جل . و لإن الإسلام ما جاء إلا شريعة للحياة فقد احتل العلم الشرعي محل المنارة في بحر العلم لما يتوقف على الاستدلال بها في كل شأن من شؤون الدنيا مدى مقاربتنا لما أمر به الله سبحانه و تعالى و ما أوصى به رسوله الكريم في سبيل ان نصل بأنفسنا ومن نحب إلى بر الأمان . و للأسف نجد أن هذا الجانب شبه مفقود في تعليمنا الحالي في زمن نحن في أمس الحاجة إليه إذ يشب الكثير من أبنائنا و نحن من قبلهم دون أن نعي العديد من الأحكام الشرعية المنظمة لكافة شؤون حياتنا فيتصرف العديد منا على غفلة من أمره في أمور دنياه دون أن نعي عواقب ما نفعل . لذا و طالما أننا ارتضينا الإسلام ديناً و هو مصدر أساسي من مصادر التشريع لم لا نهتدي بهدي آبائنا و أجدادنا فلا يقتصر تدريس العلم الشرعي على طلبة المعهد الديني بل يتم تقنينه بما يناسب بقية مجاميع الطلبة فيأخذ حيزاً أساسياً في منهاج التعليم العام إلى جانب كل العلوم الأخرى بحيث يتخرج الطالب من نظام التعليم أيا كان الفرع العلمي الذي اختار و هو على دراية كاملة بأمور دينه و أحكامه . فها هوعبدالله العثمان حين بدأ كتابة وصيته في تلك اللحظة الحرجة من حياته حرص أن يستدل في كل كلمة يكتبها بما منَّ عليه الله سبحانه و تعالى من علم شرعي بدأ يغترف من خيره منذ أن كان طالباً في مدرسة المباركية يتلقى أصول علم الفرائض و المواريث من خيرة رجال الدين و العلم في الكويت, و لولا ذلك لربما ضاعت حقوق و حرفت وصايا مغبة الجهل و الاتكال على سؤال الآخرين في كل صغيرة و كبيرة .
*****
ما هو أول ما أوصي به أبنائي إن أردت لهم الخير في الدنيا و الآخرة ؟
“أبدأ وصيتي بقوله تعالى (يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون)”
و ما هو خير و أبقى من أن يستهل أبٌ وصيته لأبنائه بوصية سيدنا ابراهيم عليه السلام لبنيه . أن يستعين المرء بدينه فيستسلم لقضاء الله عز و جل مهما حل به من مصاب جلل, أن يتمسك بصخرة الإيمان فيعتصم بحبل الله مهما غمرته أمواج الفتنة من زينة و شقاق , و حين يغرق في ظلمات النفس فيرتكب الخطايا و المعاصي يرفع رأسه المثقل باليأس إلى السماء فيرى نور ربه يتجلى في رحمته فيسجد لله تائباً راجياً مغفرته و عفوه . هو الإسلام بني فلا تتخل عن هديه مهما بلغ بك الحال في الدنيا من غنى و فقر , من صحة و مرض و من سعادة و شقاء .
*****
“وأقول أن ثلث مالي العام تتولى عليه دائرة الأيتام في الكويت بصفتها دائرة حكومية و ذلك بالاشتراك مع الصالح من ورثتي لتنميته والإنفاق من إيراده في سبيل الخير وللمشاريع الخيرية سواء في الكويت أو في البلاد العربية والبلاد الإسلامية"
“إن ثلث مالي يرفع منه نفقات بناء المساجد الآتية :
أولاً : جامع ضيعة بحمدون و له أيضاً مبلغ مائة و خمسين ألف روبية يشتري بها وقف عليه في لبنان وريع هذا المبلغ يدفع منه راتب للإمام و راتب للمؤذن و راتب للخادم و ما تبقى سنوياً تحتفظ به أوقاف لبنان لتنميته و لأخذ عقار تابع للجامع كوقف أيضاً
ثانياً : جامع النقرة الذي في محلة بيوتنا يتم بناؤه درجة أولى و يسلم لدائرة الأوقاف بالكويت.
ثالثاً : جامع في خيطان يتم بنائه درجة أولى و يسلم لدائرة الأوقاف في الكويت."
كيف للعبد الفقير أن يبر ربه الذي أوسع في رزقه و بارك في ماله حتى أصبح حديث الناس قاطبة في حياته و مماته ؟
هو الإحسان إلى الناس و البر إليهم فيما ينفعهم و حفظ حقهم في وصيته و ماله . فالحمدالله الذي أنزل الميراث في كتابه الحكيم بالأنصبة و القوانين بما يكفل حق كل وارث فيما يرث بالعدل المبين . و كما كفل الله عز و جل حق الوارث كان من رحمته تعالى أن كفل حق المورث في التصرف في ثلث ماله بما يرى فيه قضاء مصلحته وفقاً للأحكام الشرعية . و هكذا سخر عبدالله ثلث ماله عملاً صالحاً في سبيل الله لا ينقطع إلا بمشيئته سبحانه فكان أول ما بر به الله و أحسن به إلى الناس عمارة الجوامع .لكن لم كان حريصاً في وصيته أن يكون في ثلث ماله نصيب واضح في عمارة المساجد فيما يتعلق بالنفقات و تحديد المناطق التي أوصى أن يبنى على أرضها هذه الجوامع ؟
يعود عبدالله في ذاكرته إلى الوراء حين كان صبياً قبل أن تفتح المباركية أبوابها للدراسة . كانت حينها الجوامع هي مراكز العلم التي يعلى فيها اسم الله و يتعلم فيها المسلمون أمور دينهم و دنياهم . كانوا صبية و شباباً و شيباً و كهولاً كلهم يتحلقون حول شيخهم ينهلون مما اصطفاه الله به من علم و معرفة في علوم الدين و الدنيا . و في وسط هذه الحلقة يجلس الشيخ و الإمام ليمارس دوره الحيوي في تربية النشئ من أفراد مجتمعه على الأخلاق و القيم سواء بالعلم أو بإرساء القدوة الحسنة. و لعلمه بمدى تأثير بناء الجامع كركيزة من ركائز بناء المجتمع الصالح جاءت وصيته ببناء الجوامع في منطقتي النقرة و خيطان . إلا أن أول جامع أوصى ببنائه و إقامته هو جامع ضيعة بحمدون في لبنان الذي لم يوص فقط باقتطاع المبلغ المطلوب لبنائه بل خصص له مبلغ 150 ألف روبية كوقف يدفع من ريعه راتب الإمام و المؤذن و الخادم . و قد انبثقت رغبة عبدالله العثمان في بناء جامع في لبنان لما تحتله تلك الدولة من معزة خاصة في قلبه يشاركه فيها جميع أطياف الشعب الكويتي لما يتصف به شعبها من كرم و طيب الضيافة في طبيعة خلابة ألهمت أبناءها الإبداع و التنور الثقافي و حب الحياة .
لكن لبنان في ذاكرة عبدالله العثمان هي اكثر من مجرد دولة استمتع بطبيعتها و جود أهلها . لبنان التي تحيا في ذاكرته هي لبنان مصيف العائلة التي اعتاد أن يأخذ كل أولاده إليها لقضاء فترة الصيف و الاستمتاع بما أنعم الله به على أبيهم من وجاهة و سعة في الرزق. لبنان التي أحب و عشق هي لبنان التي ستبقى جزءاً لا يتجزأ من تاريخ أبنائه و أيامهم معه و التي حرص أن يظهر فيها قدر المستطاع مدى حبه لهم و أن كل ما صنع من مال و ثروة أنما هو لهم . لكن حتى في لبنان لم يشأ عبدالله أن يقترن وجوده هناك في وعي أبنائه على عيش مظاهر الترف و الرفاهية , بل كان لا بد من أن يعي أبناؤه أن مع نعمة المال و الجاه تأتي المسؤولية الأخلاقية في تسخير هذه النعم في إعلاء كلمة الله فجاءت وصيته في بناء جامع في ضيعة بحمدون الواقعة في جبل لبنان كأول جامع إسلامي يبنى في منطقة تتمتع بالهوية المسيحية والدرزية . و رغم اطمئنان عبدالله إلى كتابة هذا البند في وصيته فإن هذا لم يدفعه أبداً إلى المماطلة في تحقيقه و هو على قيد الحياة و قد كان للنهج الذي اتبعه في بنائه الأثر الكبير في تبيان مدى سماحة الدين الإسلامي في درسٍ سيبقى دائماً راسخاً في ذاكرة أبنائه متى ما تحدثوا عن إرث أبيهم .
كيف لك أن تسخر ما أسبغه الله عليك من نعم المال و الجاه في سبيل طاعة الله سبحانه و تعالى دون أن تعتدي على حقوق عباده حتى و إن اختلفوا معك في الدين و المذهب ؟
هو التسامح و المحبة و الاحترام . فحين أعلن عبدالله العثمان رغبته في بناء الجامع في منطقة جبل لبنان حدث المتوقع من إثارة بعض أهالي المنطقة رفضهم لهذا الأمر و ذلك ليس بالمستغرب في دولة عاشت انقساماً طائفياً حاداً تجلت صوره بين حرب و نزاع و كانتونات مذهبية . لكن عبدالله الذي نشأ في وطن عهد منذ ولادته الانفتاح و المساواة و احترام اختلاف الآخر ما كان لينسحب مبكراً من مواجهة هذه العقبة . و لا بد أنه أدرك بقراءته للتاريخ أن مخاوف أي مجتمع من الآخر إنما تغذيه تعنت كل طرف في موقفه لذا ارتأى عبدالله العثمان أن يعالج هذا الموقف اهتداءً بهدي الرسول صلى الله عليه و سلم في تعامله مع أهل الكتاب . فجاء قرارعبدالله العثمان بترميم الكنائس المقامة في المنطقة من حسابه الخاص كما و أجزل في العطاء و منح التبرعات لدور الأيتام التابعة للجمعيات المسيحية رغبة منه في تبديد أي مخاوف قد تعتري قلوب أهل المنطقة من بناء الجامع على أرضهم كغطاء لاغتصاب ثقافتهم و تاريخهم , فالإسلام ما كان يوماً إلا ديناً قائماً على احترام الإنسانية. و هكذا نجح عبدالله العثمان في الامتحان و بدأ بعمارة الجامع بموافقة أهل المنطقة و رضاهم ليعلو صوت الأذان في سماء جبل لبنان للمرة الأولى في تاريخ هذا الجبل العريق . و حين اشتكى بعض ساكني القرى المحيطة بالجامع من صوت الأذان , عوضاً عن أن يتجاهل شكواهم فيختلق بذلك مواجهة ستتسم حتماً بالطائفية عرض على أهل المنطقة شراء كل الأراضي و العقارات المحيطة بالجامع و التي يصل إليها صوت الأذان بضعف ثمنها وتم له ذلك . و لا يزال الناس في لبنان حتى وقتنا هذا يذكرون هذا الوجيه و المحسن الكبير الذي نال محبتهم و احترامهم و ضرب على أرضهم مثلاً مشرقاً على إمكانية التعايش المشترك القائم على التسامح و المحبة.