الملا عثمان

 إرث المعلم الإنسان 

 

الملا عثمان .

يكفي أن يذكر اسم هذا الرجل حتى تتدافع في ذهنك صفحات التاريخ الكويتي لتتوقف عند بوابة التعليم التي بزغ منها فجر مستقبل جديد للكويت الذي أحب و عشق. هو الملا عثمان عبداللطيف العثمان من مواليد الكويت عام 1899م في فريج حي العوازم حيث نشأ و ترعرع حتى أضحى أحد أهم المربين الرواد في التاريخ الكويتي . عند البحث في تجربته ستجد أن الكثيرين قد كتبوا عن هذا الرجل   و بحثوا في حياته التي لازمت جنباً إلى جنب مراحل تطوير التعليم النظامي في الكويت منذ نشأته في اليوم الأول لافتتاح مدرسة المباركية و حتى اكتمال بنيانه المؤسسي .  ثمانٌ و خمسون عاماً قضاها في التربية و التعليم كمعلم و مربٍ مرت على يديه أجيال كويتية متعاقبة حملت على أعناقها مسؤولية الدفاع عن هذا الوطن و العمل على ازدهاره و زرع سنابل الخير في أرضه الطيبة ليصل حصادها إلى أصقاع العالم كله.

 لكن و طوال مرحلة كتابتي لهذا المشروع ما انفك يروادني سؤال لا بد لكل كاتب أو باحث أن يجد إجابة له  : و ماذا بعد ؟ إن كان الكثير قد سبقنا في الحديث عن الملا عثمان فما الذي يمكن أن نضيفه إلى جهدهم الحثيث و المخلص في تدوين سيرته دون أن يضحو عملنا مجرد صدى لما تم قوله و نقلاً جامداً لما تم تدوينه ؟  الجواب قد يكون بسيطاً .

أن تقضي أعواماً طويلة في مهنتك لهو أمر اعتيادي لكن الملا عثمان لم يقض أعواماً طويلة في مهنته كمعلم بل كان معلماً منذ أن كان فتىً يبلغ السادسة عشر من عمره مروراً بشبابه و كهولته و حتى شيبته . أن تتداخل هويتك الشخصية و المهنية حتى تصبح واحداً لا يتجزأ داخل مكان العمل و خارجه لهو أمرٌ يخشى ندرة حدوثه في زمن أصبح موسوماً بالمنفعة و المصلحة الشخصية أولاً قبل كل شيء . بالطبع بإمكان أيٍ منا أن يفصل بين حياته الشخصية ومهنته فلكلٌ مكانه و زمنه و متطلباته , لكن أن تكون معلماً فهو أن تحمل عبء الرسالة  بكل ما يحمل قلبك من حب  و روحك من إيمان و عقلك من نور و جسدك من جهد حتى تصل بهذه الرسالة إلى آلاف التلاميذ من الأطفال و المراهقين الذين ينظرون إليك كل نهار خلال كل تلك الأعوام منتظرين منك ما تحمله إليهم لحظة دخولك من الباب . فالطالب أياً كان عمره لا يرى في معلمه رجلاً صاحب مهنة كغيره من أصحاب المهن ممن يعملون لقاء الأجر لا غير إلا إذا أراد المعلم له أن يرى ذلك فيه . فلو كانت مهنة التعليم تقتصر على نقل المعلومات من الكتاب إلى عقل الطالب كما هي لكان دور المعلم لا يتجاوز دور الوسيط الذي يمكن الاستغناء عنه و استبداله بآخر دون أن يشعر الطالب أن شخصاً قد خرج من حياته و آخر دخل فيها. و للأسف فإن عدداً كبيراً من الطلاب في زمننا الحاضر لا يرون في معلمهم شخصاً يستحق مكاناً له في وجدانهم فيضحو اسمه و الساعات و الأيام  و الأعوام التي قضاها معهم كزبد البحر تذهب هباءً . 

  و الواقع الأسوأ أن عدداً لا يستهان به من المعلمين لا يرون في غياب دورهم الإنساني في حياة طلابهم الأمر الجلل الذي يستحق الرثاء أو حتى التساؤل عن الأسباب طالما لا يؤثر في استلامهم الراتب آخر الشهر . لكن الحقيقة الكبرى هي أن المعلم ليكون معلماً لا بد له من أن يقر لنفسه أولاً أن دخوله مهنة التعليم تعني دخوله المباشر على حياة و نبض  مجتمع بأكمله من خلال أكثر أفراده ضعفاً و حساسيةو تأثراً بالآخر ألا و هم الأطفال و المراهقون . فبإمكاننا أن نجادل ما شئنا أن الطلبة حين وصولهم للصف صباح كل يوم فهم يحملون على ظهورهم كل التجارب - الجيدة منها و السيئة - والتي عاشوها في منازلهم و عليه فإن الأسرة تتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية فيما يتعلق بالشخصية و بالطباع التي يتطبع بها الطالب منذ طفولته الأولى و حتى يوم تخرجه من المدرسة , وهذا واقع لا يجرؤ أحد منا على إنكاره . لكن هذا الواقع لا ينفي أبداً مسؤولية المدرسة متمثلة بالمعلم أولاً في خلق بيئة إيجابية للطلبة تمكن الجميع من تجاوز تجاربهم التي يحملونها معهم  و توعيتهم على الأقل بما يكفي من القدر اليسير الذي يعينهم على تجاوز الصعوبات التي يعانونها و تمييز الخطأ من الصواب و تقويم أي شائبة قد يتعرض لها أي طفل في سلوكه بالموعظة   و الكلمة الحسنة ,  و هذا كله لا يكون إلا إذا اقتنع المعلم رغم كل الوقائع المؤلمة التي يعيشها في هذا الزمن الصعب أن دوره كمربٍ للأجيال يأتي أولاً على دوره المهني كمدرس.

 لكن لم كل هذا الحديث الآن و ما علاقته بتجربة الملا عثمان في مجال التعليم ؟

العلاقة واضحة و بسيطة .

الملا عثمان يعبر عن جيل كان المعلم فيه مربياً قبل أن يكون مدرساً . فاختيار الملا عثمان مزاولة مهنة التعليم لم يأت من باب اختيار الرجل لأي مهنة تعيله بل جاء اختياره نابعاً من إيمانه الحقيقي بأن التعليم هو الميدان الذي يتأتى له فيه خدمة دينه    و وطنه , و لذا نجد أن تفانيه و إخلاصه في حمل رسالته قد شكلا إرثاً وطنياً لا يزال يذكره له أبناء وطنه كلما روى التاريخ قصة التعليم في الكويت . لذا ألا يعد من المنطقي أن نستقي من تجربته بعض الإضاءات التي من شأنها أن تلهم أي معلم شاب دخل هذا المجال و تمده بحقيقة دوره التي حاول الكثيرون عبر السنوات السابقة  الإقلال من شأنها و تغييبها إما بالسخرية أو مقولات الإحباط اليومي دون أن ننسى ضعف المردود المعنوي قبل  المادي . فالحقيقة هي متى ما أدرك الجيل الجديد من المعلمين مدى حيوية دورهم حقاً بعيداً عن كل الصور النمطية التي تحيط بالمدرس فسيلعب هذا الإدراك دوراً مهماً في استعادة إيمانهم بقدرتهم على صنع فارق حقيقي في حياة جيل كامل و لو كانت في كلمة تشجيعية أو نصيحة أبوية لطالب لم تستغرق من وقت المعلم خمس ثوان لكن صدف و أن كان الطالب يومها في أمس الحاجة إليها ليستعيد ثقته بنفسه. من هنا جاء عملنا المتواضع نابعاً من روحية العودة إلى الماضي لا للتحسرعلى ما فات  بل لنستدل طريقنا مرة أخرى إلى المستقبل الذي هو أولاً  و أخيراً ملك لأطفالنا  و أبنائنا. 

   لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً 

                                                        الملك فيصل الأول

 كان لا يزال في عمر السادسة عشر حين دخل الفصل أول مرة كمعلم لأربعين طالباً كانوا حتى الأمس رفاقاً له في المدرسة. و كمعلم كان عثمان مسؤولاً عن تدريس ثلاث مواد أساسية تشكل حجر الأساس في المنهج التعليمي الخاص بمدرسة المباركية ألا  و هي : القرآن الكريم , اللغة العربية و مبادئ الحساب . و يعود السبب الأساسي في اختيار إدارة المدرسة لأحد طلابها للقيام بمسؤولية المعلم إلى أزمة الشح في المدرسين التي عانت منها المدرسة في عام 1338هـ نظراً لعدم توافر الموارد البشرية و المادية المطلوبة آنذاك لمواكبة ازدياد إقبال الطلبة عليها خصوصاً مع كونها المدرسة النظامية الوحيدة  في الكويت. لكن إذا أردنا استعراض أسباب اختيار شخص الملا عثمان للقيام بهذه المسؤولية من قبل كبار معلمي الكويت و مربيها الأفاضل  فلا بد أنها تعود في أصلها إلى شقين : القدرة العلمية و القدرة الشخصية . أما القدرة العلمية فيمكن قياسها من خلال معاصرة المعلمين للطالب خلال فترة دراسته في المدرسة و متابعتهم لمدى اكتسابه للمهارات و سرعة استقائه للمعلومات    و قدرته على ربط تلك المعلومات و المهارات و إعادة انتاجها في منظومة علمية متكاملة . أما القدرة الشخصية و هي التي يصعب تقييمها حتى عند المعلم المبتدئ فتعتمد على تراكم الخبرات من خلال مواقف معينة تبرز السمات الأخلاقية و السلوكية والشخصية التي لا بد أن يتمتع بها المعلم . و بينما تعد القدرة العلمية شرطاً أساسياً لا بد لكل معلم من استيفائه حتماً فإن التمتع بهذه القدرة وحدها لا تصنع من صاحبها معلماً لإن عملية التعليم ذاتها تنطوي على أكثر من مجرد عملية التدريس وحدها . فالتعليم عملية متكاملة متعددة الأوجه تعتمد في نجاحها على مدى قدرة المعلم على خلق بيئة صالحة لطلبته تربوياً و نفسياً  و إدارياً و علمياً . و لذا نجد أن المعلم مطالب بأن يضع في الاعتبار تطوير مهاراته في إدارة الفصل و تهيئة نفسه عاطفياً و نفسياً و سلوكياً عند التعامل مع الطلبة كافة دون إهمال أو تمييز فيتعامل مع الضعيف منهم  و المتفوق , المشاغب منهم  و الملتزم كلٌ حسب حاجته  و كلٌ بهدف مساعدته . لكن السؤال الأهم الذي لا بد لكل معلم أن يطرحه على نفسه عند دخوله عبر بوابة المدرسة كل يوم هو : هل أتحلى بما هو مطلوب لأكون قدوة حسنة يتمثل بها طلبتي في حياتهم ؟ متى ما سأل المعلم نفسه هذا السؤال  و متى ما عقد العزم على إجابته إجابة ترضيه و تسعده حينها فقط سيتمكن من حمل ثقل الرسالة الحقيقية الملقاة على عاتقه كما حملها الملا عثمان منذ أن كان فتىً طري العود طويل القامة مهيب الكلام قوي القلب و هو يدخل على رفاق الأمس للمرة الأولى معلماً و مربياً .

 

 

 

 رحم الله من عاقبني فهذبني فرباني , فقد نفعني أكثر ممن ألهاني فأفسدني فأشقاني .

حكمة عربية

نعود إلى أحد الصورالنمطية للمعلم قديماً والتي يرفع فيها المعلم عصاه ليضرب بها الطالب عقاباً على سلوك خاطئ أو إهمال في أداء واجباته و ذلك أمام أقرانه من الطلبة في الفصل , و قد تتدرج شدة الضرب في تلك الصورة من الضرب الخفيف إلى الضرب المبرح الذي يتجاوز الأذى الجسدي للطالب إلى العاطفي و النفسي الذي قد يعيق عملية تعلمه بأسرها . و لا تعد تلك الصورة النمطية بعيدة عن أرض الواقع الذي عاشته الأنظمة التعليمية التقليدية قبل زمن ليس ببعيد في جميع أنحاء العالم و التي اعتمدت مبدأ الضرب كإجراء عقابي للطلاب يحق فيه للمعلم حصراً تقرير مدى استخدامه و بأي درجة وذلك بدعم من إدارة المدرسة و الأهل و المجتمع .  و تتعدد أسباب اعتماد الضرب كوسيلة عقابية  لكن السبب الرئيسي الذي جعل من هذه الوسيلة مقبولة آنذاك هي ثقة الأهل المطلقة بشخص المعلم الذي عادة ما يكون من رجال العلم و الدين المعروفين في المجتمع بالحكمة و النزاهة الأخلاقية و السلوك القويم و الذين يشكلون بأشخاصهم أحد أعمدة المجتمع الذي يعيشون فيه . و كنتيجة مباشرة لارتباط الصفة الدينية بالمعلم سواء كانت صفة الشيخ البسيط أو العالم الجليل فتلك الصفة هي أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في خلق هالة الوقار و الاحترام التي يستعين بها المعلم في فرض حالة النظام على طلبته بدعم و مباركة الأهل حتى و ان اضطر لاستخدام العقاب البدني وسيلة لتحقيق غايته التربوية لأن صفة المربي هي التي ما كان يسعى إليها الناس في المعلم . و قد  سار الملا عثمان على ديدن جيله من المعلمين ممن استخدموا العصا وسيلة لتقويم سلوك الطلبة متى ما تطلبت الحاجة دون إسراف أو تسويف في استخدام هذا الحق فما تجاوز الضرب الخفيف الذي يردع دون أن يؤذي من باب " من يك حازماً فليقس على من يرحم " . و قد أدان الملا عثمان في مقابلة موثقة له لجوء بعض المعلمين إلى الضرب المبرح أو المهين الذي لا يخدم العملية التربوية بأي شكل كان بل يعيقها . و إن كان اتصاف المعلم بالحزم أمر ضروري و حيوي لضمان نجاح المعلم في تأدية دوره التربوي فهو لا يستدعي أبداً اللجوء إلى العنف و القسوة و كيل الإهانات و الإسفاف في استخدام الألفاظ المشينة . بل إن الحزم في رأي الملا عثمان لا يكون ناجعاً إلا إذا اقترن بالرحمة و الرأفة و الكلمة الحسنة التي ترفع من مستوى التعامل و التخاطب بين المعلم و طالبه في جو يسوده الاحترام المتبادل و هو ما يعد الأساس الصحيح لاستخدام مبدأ العقاب داخل الفصل.

 و قد يراود بعض المعلمين المعاصرين شعور بالحنين إلى الأيام التي كان الضرب مسموحاً به كأدة تأديبية للطلبة خصوصاً المشاغبين منهم و قد يذهب البعض إلى ربط حالة التذبذب التي يعيشها المعلم في زمننا هذا و عدم قدرته على فرض هيبته داخل الفصل و استقواء الطلبة عليه إلى غياب تلك الوسيلة حصراً . لكن ما يغيب عن ذهن العديد من المعلمين أن العوامل الاجتماعية التي اعتماداً عليها اعتد بالضرب وسيلة مقبولة لم تعد موجودة . فمع الطفرة الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي مر بها المجتمع الإنساني خلال الخمسة عقود الماضية ما عاد المعلم بشخصه ذاك الركن الأساسي في مجتمعه و الذي يلجأ إليه أفراد المجتمع للاستزادة من علمه و حكمته . بل أصبح المعلم صاحب مهنة و وظيفة كغيره من أصحاب المهن و ما عادت ترتبط به صفة دينية اجتماعية واضحة المعالم خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار الزيادة الهائلة في أعداد المعلمين و تنوع مشاربهم بين مواطن ووافد  و بين من هو من أهل المنطقة و خارجها . و عليه فإن ثقة الأهل في المعلم ليتخذ الإجراء الصحيح في تربية طفلهم حتى و إن تطلب ذلك الضرب قد انعدمت لانعدام الصلة الوثيقة بين المعلم  و الأهل بعد أن أصبح المعلم فرداً غريباً عن المجتمع الذي يعمل فيه .   

إذاً ما هو الحل ؟

 لا بد للمعلم أن يدرك أن قرار منع اللجوء إلى العقاب البدني مع الطالب - و هو قرار صحيح يصب في مصلحة العملية التربوية في المدرسة - لا يعني أبداً منع المعلم من اللجوء إلى استخدام مبدأ العقاب مع طلبته فهي أداة تربوية لا غنى عنها . لكن إذا أراد المعلم أن ينجح في استخدام هذا المبدأ فعليه أن يضع في الاعتبار المعايير الأساسية التي بناءً عليها يحق له اللجوء إلى العقاب و تقرير ماهية العقاب الذي ينوي إنزاله على الطالب . 

أولاً و قبل كل شيء على المعلم أن يعي أن هناك حداً فاصلاً بين عقاب الطالب  و بين إهانته علناً أمام رفاقه . فالهدف النهائي من العقاب هو أن يدرك الطالب خطأه السلوكي فيعتذر عنه و يعمل جاهداً على أن لا يعود إليه مجدداً اقتناعاً منه بأن استمراره في ارتكاب هذا الخطأ إنما سيجلب له الضرر. لكن  في بعض الأحيان و في غمرة الضغوطات الحياتية و المهنية التي يتعرض لها المعلم يغيب عن ذهنه أن من يتعامل معهم هم في النهاية أطفال و أنه هو أي المعلم الشخص الوحيد البالغ في الفصل , فيعمد و في ثورة غضبه إلى تصحيح الخطأ السلوكي الذي صدر عن الطالب بخطأ سلوكي أفدح منه فيلجأ إلى إهانته و شتمه و أحياناً إلى السخرية منه ظناً منه أنه بإحراجه للطالب علناً فقد لقنه درساً لن ينساه و هو غالباً لن ينساه . فكل ما سيعلق في ذاكرة الطالب من هذه التجربة أن المعلم قد أهانه و جرحه و لن يلتفت إلى الخطأ الذي صدر منه قبلاً لأن في اعتقاده أن ما رآه للتو من معلمه يفوق أي خطأ ارتكبه. و بناءً عليه ستكون النتيجة إحدى اثنتين : فإما أن يتحدى الطالب معلمه ظناً منه أنه بهذا التحد إنما ينتصر لكرامته فيعلو الصراخ و يبدأ تبادل الإهانات فيفقد المعلم سيطرته تماماً و تنهار بيئة الفصل , أو سيخضع الطالب للترهيب الذي تعرض له من قبل معلمه فيضطر إلى تحمل الأذى النفسي الذي لحق به و ما سيترتب عليه من نتائج سلبية في المستقبل القريب و البعيد. و في كلا الحالتين فإن المعلم في تصرفه الخاطئ قد فشل في تحقيق الغاية من العقاب و عليه فقد فشل في أداء دوره التربوي .

 لذا وجب على المعلم أن يضع في الاعتبارأثناء  لجوئه إلى خيار العقاب أن يقترن تصرفه بتحليه لحظتها بصفات ثلاث : الاحترام , الحزم و الهدوء . فلا بد أن يحرص المعلم على أن يبقى على مثله العليا التي يعظ بها الطلاب طوال الوقت  و خصوصاً أثناء فرض العقاب فيبقى على احترامه للطالب أثناء مخاطبته اياه بهدوء دون حدة في الصراخ و بنبرة تتسم بالحزم و الجدية مع توضيح الخطأ الذي استدعى العقاب .  و قد يرى بعض المعلمين أن هناك فئة من الطلبة ممن تتجاوز سلوكياتهم الخاطئة الحدود المعقولة التي يمكن للمعلم أن يتحملها في فصله , و الحقيقة أن لا وجود لمعلم لم يصادف في حياته المهنية أحد الطلبة ممن ينتمون إلى تلك الفئة التي غالباً ما تعمل على عرقلة سير الحصة . لذا ننتقل إلى المعيار الثاني و هو معرفة المعلم لحدود قدرته على التعامل مع الطلبة الذين يعانون من نمط سلوكي خاطئ متكرر فيضع في الحسبان أن الحالة التي يواجهها قد تكون عبارة عن حالة نفسية اجتماعية يقع علاجها خارج حدود صلاحياته و قدرته و هنا عليه الاستعانة بمكتب الاخصائي الاجتماعي و متابعة حالة الطالب مع التشديد على أهمية الحفاظ على خصوصية المشاكل التي يعاني منها فلا يتم استغلالها في حال معرفتها ضد مصلحة الطالب تحت ذريعة العقاب بل عليه أن يستغل تلك المعرفة للاستدلال على طرق أخرى ناجعة في مقاربة الطالب بعد الأخذ بتوصيات و مشورة الأخصائي الاجتماعي.

 المعيار الثالث و الأخير هو أن على المعلم أن يحرص أن لا يجعل من العقاب وصمة عار تلحق بالطالب فيتحمل تبعيتها طوال السنة خصوصاً أثناء تقييم الطالب شفهياً تحت بند السلوك إذ لا بد أن يتوازى مع العقاب على السلوك الخاطئ التشجيع على السلوك الحسن حتى و إن حدث هذا أثناء الحصة ذاتها حتى لا يشعر الطالب أن وصمة الشغب قد التصقت به في ذهن المعلم وعليه فلا فائدة ترجى من تغيير سلوكه . أما النصيحة الأخيرة و التي أستقيها من تجربتي الشخصية مع العديد من المعلمات الفاضلات سواء كطالبة أوكمعلمة فهي أن فرض هيبة المعلم  و وقاره لا تتعارض أبداً مع إظهار محبته لطلبته واهتمامه بهم و احترامه لهم  و حرصه على مصلحتهم . فطلبة الملا عثمان لا يزالون حتى يومنا هذا يذكرون عقابه لهم جيداً لأنهم يتذكرون الخطأ الذي استدعى العقاب و عليه يعلمون أن عقاب الملا عثمان كان في محله       و نابعاً من حرصه على مصلحتهم و محبته لهم كمحبته لأولاده فبادلوه تلك المحبة بمحبة أعظم منها و باحترام مهيب لشخصه لا يزال صداه يتردد إلى يومنا هذا. 

كل إناء يضيق بما جُعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع .

الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه 

 حين تختارالدخول في  مهنة التعليم فاعلم انك باختيارك هذا تكون قد اخترت العلم درباً لك في الحياة , ودرب العلم لا يقف عند حدود آخر مادة مذكورة في صحيفة التخرج الخاصة بك . فالملا عثمان لم يضع يوماً حداً لسعيه وراء اكتساب العلم طوال الثمان و الخمسين عاماً التي قضاها في التعليم , و لم يثنه عن سعيه هذا أي ظرف من الظروف حتى بعد تقاعده عن التدريس لأن العلم للمعلم هو الزيت الذي ينير المشكاة في قلبه فيبقى نورها متوهجاً في عينيه و هو يعلم طلبته . و لا يخفى على الجميع أن من أهم العقبات التي تواجه مهمة تطوير التعليم في العالم بأسره هي آفة الجمود العلمي التي تصيب المعلم مع مرور السنوات على ممارسته لمهنته مما استدعى في بعض الدول و منها دولة الكويت دراسة مسألة تجديد رخصة التعليم للمعلم كل خمس سنوات بعد إجرائه لعدد من الاختبارات التي تقيس مدى تطوره في أدائه المهني و العلمي  . و لا يمكن إلقاء اللوم بأكمله على عاتق المعلم إذ يؤدي تقيد المعلم بتدريس منهج معين ثابت لسنوات طويلة دون أن يطرأ أي نوع من أنواع التطويرعلى المناهج إلى خلق حالة من الفتور التي تطفئ مع الأيام شعلة الحماس المتقدة في قلب المعلم الشاب . لكن في المقابل فالمعلم يملك من الإمكانات ما تتيح له الالتفاف على عملية الجمود متى ما أراد هو ذلك .

 فإذا ما أردنا أن نضع أيدينا على المشكلة الأساسية التي تخلق حالة الفتور فهي تكمن في شعور المعلم بأنه يرزح تحت ضغط شديد لإنهاء تدريس المقرر وفقاً لخطة المنهج المعدة من قبل وزارة التربية و هو شعور محق به تماماً . فإذا كان بالكاد يتسنى للمعلم أن يشرح ما هو مطلوب منه دون أن يتأخر بسبب عدم كفاية الحصص و تحمله للوقت الضائع الذي يهدر في سبيل فرض النظام في الفصل  فما الداع إذن لأن يسعى لمعرفة ما هو أكثر إذا انتفى وجود الوقت الذي يتسنى له فيه مشاركة علمه الجديد مع طلبته . هنا على المعلم أن ينظر إلى مسألة تحصيله للعلم  و سعيه للمعرفة من منظور آخر. فالغاية من استمرار المعلم في الاستزادة من أوجه العلم و المعرفة لا تتعلق بمشاركة المعلم لمعلومات جديدة خارج المنهج مع الطلبة بقدر ما تتعلق بعملية تجديد روح المعلم ذاته . فمهنة التعليم من المهن التي يعرف عنها الثبات في نظامها اليومي و هو النظام الذي يعصى عليه التغييرو التجديد . وغالباً ما يجد المعلم نفسه مع الأيام دفيناً تحت وطأة هذا الثبات بحيث يبدو اليوم كالبارحة  و البارحة كالغد فيرى كل أفواج الطلبة التي مرت على فصله تغادرلتبدأ حياةً جديدة أما هوفسيبقى ثابتاً في مكانه يعلم الدروس ذاتها مستنداً على التحضير ذاته و كأن الحياة توقفت عند حدود عتبة فصله . هذا و دون أن ننسى أيضا الفجوة الثقافية التي تتشكل مع السنين بين المعلم و طلبته خصوصاً في زمننا هذا الذي تتسارع فيه عملية تجديد المعلومات و التقنيات و وسائل الاتصال حتى أضحى الفرق بين الجيل و الجيل الذي يليه ضئيلاً قد لا يتعدى الخمس سنوات .

 و هذه الفجوة التي تتسع مع الأيام و هذا الثبات الممل في نمط أداء المعلم هو ما شكل الأساس عند البعض في خلق تلك الصورة النمطية السخيفة و المهينة عن المعلم  و التي تصوره شخصاً مهمل اللبس و رث الهيئة كأنه من كوكب آخر يسيطر عليه التوتر أمام سخرية الطلبة و تهكمهم عليه . من هنا تكتسب مهمة السعي وراء العلم أهميتها في حياة المعلم و تحديد رؤيته لدوره في الحياة كرجل علم و ثقافة لا كملقن لاسطوانة مشروخة تنتهي بنهاية العام فقط ليعاود تلقينها العام الذي يليه. فكلما ازداد المعلم علماً و ثقافة سواء كان في مجال تخصصه أو أي مجال آخر يستهويه فسيتمكن شيئاً فشيئاَ من رؤية الصورة الأكبر و الأشمل لدرسه و حينها سيتمكن من مشاركة هذه الصورة مع طلبته و التي يبدأ تشكيل نواتها في دفتر التحضير ليكتمل بنيانها في طريقة و أسلوب التدريس. فقد تكون المهارة أو المعلومة هي ذاتها المطلوب تعليمها لسنوات عديدة في مرحلة دراسية معينة لكن متى ما توافرت الخلفية الثقافية و العلمية لدى المعلم فسيتمكن من توصيل هذه المهارة و المعلومة بأكثر من طريقة تدريس مناسبة تخاطب عقل الطالب الجالس أمامه اليوم و تثير اهتمامه بحيث يواكب أداء المعلم في فصله صورة العالم التي يراها الطالب في ذهنه.

 

 

  المعرفة فن , و لكن التعليم فن آخر قائم بذاته .

شيشرون  

 لكن لأن العلم و الثقافة عالمان لا حدود لهما فهل هناك من حدود لا بد أن تفرض على المعلم في استخدامه لمخزونه المعرفي و الثقافي في عملية تعليمه و تربيته للطالب ؟ نعم هناك حدود و هي حدود واضحة و صريحة . فعلى سبيل المثال إذا كان المعلم ممن يؤمنون بنظرية النشوء لداروين فهل هذا يعطيه الحق في مشاركة إيمانه هذا مع طلبته في مجتمع إسلامي و إقناعهم به ؟ الإجابة بالطبع لا . و قد يبدو هذا المثال سطحياً و بعيداً عن الواقع في مجتمعنا العربي الإسلامي المؤمن بالله سبحانه و تعالى و المتمسك بعقيدته  لكن في الحقيقة يمكن أن نطبق هذا المثال على العديد من الآراء الدينية و السياسية و المذهبية و العلمية الخلافية التي لا يخلو منها أي مجتمع إنساني و التي يحلو لبعض المعلمين مناقشتها داخل الفصل دون مراعاة للطلبة مما قد يثير بعض الحساسيات و الفتن و الانزعاج .  فالحقيقة أن على المعلم أن يدرك منذ اليوم الأول لتسلمه مسؤولياته أن عملية التعليم هي في جوهرها ملك للدولة والمجتمع الذي اختار المعلم أن يعمل فيه و عليه تترتب على المعلم مسؤولية احترام رؤية الدولة و تلبية رؤيتها لماهية التعليم الذي تتوقع لجيلها الناشئ أن يتلقاه حتى و إن عارض بعض معتقداته و آرائه الشخصية . و قد تكون هذه هي الحالة الوحيدة التي على المعلم أن لا يعتبر فيها طلبته أبناءً له , فهو و إن كان يملك مطلق الحرية في تربية أبنائه في منزله وفقاً لما يؤمن به فهو لا يملك هذا الحق مطلقاً مع طلبته . فإن أراد المعلم أن يؤدي واجبه التربوي على أفضل ما يكون فعليه أن يحافظ دائماً على موقعه كرمز للحكمة و الوحدة الوطنية داخل الفصل و أن ينأى بفصله عن أي خلاف في الرأي أو انقسام حاد يقع خارج سور المدرسة فلا يسارع في إبداء رأيه الشخصي لأنه حينها سيفقد هذا الموقع و سيجد نفسه تحت وطأة حماسة النقاش و قد أصبح طرفاً مع مجموعة ضد مجموعة و هذا أخطر ما قد يهدد الطالب الذي من المفترض أن يشعر بالأمان داخل الفصل أياً كانت انتماءاته الجزئية التي تندرج تحت سقف انتمائه الوطني . 

فإذا ما عدنا بالوراء إلى تجربة مدرسة المباركية سنجد أنها  لم تكن مجرد مدرسة يتم فيها تلقي بعض العلوم , بل كانت صرحا وطنياً عمل على ترسيخ مفهوم المواطنة و الانتماء و المساواة  لدى الطلبة . و سيكون من الخطأ  إن اعتبرنا أن افتتاح مدرسة المباركية عام 1911م الذي جاء مع بداية تبلور عهد الدولة الحديثة في تاريخ الكويت القائم على الدستور و العمل المؤسساتي الذي بدأ رسمياً عام 1963م هو من قبيل الصدفة التاريخية . فإن كان هناك من شيء يعلمنا اياه التاريخ الإنساني فهو أن المجتمع يعيش دائماً في طور النمو وأي تجربة يمر بها سلبية كانت أو إيجابية هي التي تقرر ماهية المجتمع الذي سيضحو عليه في المستقبل القريب   و البعيد و هو ما ينطبق على تجربة المجتمع الكويتي مع مدرسة المباركية في مسيرته كوطن و كدولة .  فمدرسة المباركية و إن لم تكن حكومية ضمن التعريف الحالي من حيث أنها قامت في بدايتها على التمويل الخاص فقد كانت وطنية بامتياز لأن التمويل الخاص لم يأت من جهة معينة داخل المجتمع بهدف زرع أفكارها الخاصة بها و الانغلاق على ذاتها بعيداً عن باقي أطياف المجتمع بل جاء التمويل  و التأسيس من تبرعات و جهود المجتمع الكويتي بمختلف أطيافه كلٌ حسب مقدرته   و كلٌ بهدف تعليم أفراد المجتمع ذات نوعية التعليم دون تمييز أو تفرقة بين الطلبة . فحين كان يدخل الطالب الكويتي عبر بوابة المباركية إنما كان يعبر هذه البوابة و هو موقن أن انتماءه الطبقي و الاجتماعي و الاقتصادي و المذهبي  و العائلي لا دور له مقارنة بانتمائه الوطني للكويت و لأرضها لأن انتماءه هذا هو الذي يساويه بجميع زملائه في الحقوق و الواجبات داخل الفصل و الذي يحافظ بدوره على كيانه كفرد مستقل.  و هذا الفكر الذي قامت عليه المدرسة المباركية و الذي رسخه كوكبة من المعلمين و المربين الأوائل من كبار رجال العلم و الدين في قلوب و عقول طلبتهم هو الذي ساهم في خلق جيل كويتي بأكمله قادر على تحمل مسؤولياته الوطنية  و الانطلاق بوطنهم إلى عصر النمو و الازدهار السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و العلمي و الذي لم تشهد له المنطقة مثيل في ذاك التاريخ. و هذا ما كان ليكون لولا التزام المعلمين من أمثال الملا عثمان بدورهم الوطني اتجاه طلبتهم  و احترامهم لرمز الدولة و هيبتها و الذي انعكس على منظومة القيم التي تشكلت لدى أبناء الكويت حتى أصبحوا من رجالاتها و قيادييها.

   إن معلمينا هم الذين يعطوننا الطريقة لنحيا حياة صالحة .

 فيلوكسين ألستيري

 لكن أيعني وجود الحدود حرمان المعلم من دوره الطبيعي في إضفاء رؤيته الشخصية و المساهمة في تطوير التعليم إذا ما شعر بأن جهوده مكبلة بقيود المجتمع الذي غالباً ما يرفض أي جديد حتى و إن كان في مصلحة أبنائه خوفاً من ضياع هويته  و انسلاخه عن منظومة معتقداته . المفتاح في هذه المسألة يكمن في عملية الموازنة بين التطوير و بين الحفاظ على هوية المجتمع و هو السبيل الذي اتبعه الملا عثمان في مسيرته كأحد الرواد الكويتيين الأوائل الذين تركوا بصمة واضحة في تطوير التعليم الكويتي من نظام الكتاتيب إلى التعليم النظامي . إذ يذكر الدكتور عبدالمحسن عبدالله الخرافي في موسوعته " مربون من بلدي " عن الملا عثمان أنه كان من أبرز الذين طوروا مناهج التعليم في الكويت و نقلها من طور الكتاتيب إلى المنهج الحديث الذي قام عليه التعليم النظامي في الكويت دون أن يخالف بذلك مبادئ مجتمعه . و تعد عملية البحث عن نماذج ناجحة في الخارج  و الاقتباس منها من أهم الخطوات الأولى التي تنبثق منها عملية التطوير و التجديد, لكن إذا جاء الاقتباس كاملاً دون دراسة جادة لمدى ملائمة النظام الجديد لمعايير المجتمع  فمآله حتماً إلى الفشل و الرفض لأن هذا النظام إنما جاء من مجتمع آخر يختلف في خصوصياته عن المجتمع المزمع إقامة ذات النظام فيه . و لا يكمن الحل في رفض كل نظام جديد رفضاً تاماً كلما اكتشفت فيه جزئية تتعارض مع معايير المجتمع و إلا لما نجعت أي محاولة تطوير في أي دولة,  بل الحل هو في ما سار عليه الملا عثمان و أقرانه من أخذ جوهر النظام الجديد بعد دراسته دراسة شاملة ليبدأ من بعدها العمل على إعادة قولبته وتشكيله بما يتوافق مع تطلعات المجتمع و منظومة قيمه الوطنية والإيمانية و الاجتماعية . و هكذا كان أن أدى الملا عثمان  دوره العلمي و التربوي و الوطني في تطوير التعليم الكويتي على أكمل وجه دون أن يستفز طبيعة المجتمع الذي هو جزء لا يتجزأ من نسيجه  .

 

 

 المعلم ناسك انقطع لخدمة العلم كما انقطع الناسك لخدمة الدين .

أحمد  أمين

  عوضاً عن أنها رسالة علمية فرسالة المعلم هي رسالة أخلاقية في المقام الأول وهذه الحقيقة تجعل من مهنة المعلم من أشق المهن و أصعبها على الصعيدين الإنساني  و الشخصي . ففي بقية المهن قد يأتي المعيار الأخلاقي تالياً  للمعيار المهني , أي بمعنى آخر فإن التزام الموظف بالحد الأدنى من القيم الأخلاقية و عدم تجاوزه لأي من الضوابط وقوانين العمل الداخلية قد يكتفى به في كثير من الأحيان إذا ما تمتع بالمهارات المهنية المطلوبة في عمله و عليه متى ما كان خارجاً عن نطاق عمله فتصرفاته الأخلاقية و الشخصية لا تعني الشيء الكثير لدى زملائه و رؤسائه  و مرؤوسيه. لكن في مجال التعليم فالحال تختلف تماماً. فمتى ما قرر أي منا الالتحاق بسلك التعليم المدرسي عليه أن يعي أن هامش الحرية الأخلاقية  و الشخصية الذي نتمتع به هو أقل بكثير من بقية أقراننا في معظم المهن و المجالات الأخرى . فابتداءً من المظهر الخارجي من اختيارنا للملبس و الهيئة نزولاً  إلى المظهر الداخلي من انتقائنا لكلماتنا و تقرير أفعالنا فهي تعد كلها خيارات يومية تصب في صميم نجاحنا بأداء واجبنا المهني كمعلمين اتجاه أبنائنا الطلبة . فالطلبة على مختلف مشاربهم  و سلوكياتهم و أخلاقياتهم المشاغب منهم و الملتزم جميعهم يملكون ذات التوقع من معلمهم و هو أن يعيش المثال الأخلاقي الذي يرونه فيه و هو توقع لا يشاركه فيه في أذهان الطلبة إلا اثنان فقط : الأب و الأم . و كما أن الطفل يتأثر إيجاباً أو سلباً بتصرفات أبويه فالأمر هو ذاته مع المعلم و إن بصورة مختلفة . فالطفل تدفعه غريزته إلى محبة أبويه و تقبلهما رغم أخطائهما حتى و إن عجز أحدهما أو كلاهما عن الامتثال لمنظومة القيم الأخلاقية التي يفرضها المجتمع لكن حين يذهب هذا الطفل إلى المدرسة حاملاً ذات التوقع الأخلاقي من معلمه فهو لا يشاطر معلمه ذات التسامح الذي قد يحمله لأهله . فالمعلم يبقى دائماً في ذهن الطفل المثال الأخلاقي و التربوي الذي يتطلع إليه ليعوضه عن أي نقص شاءت الظروف أن يتعرض له في بيئته الأسرية . 

  و ربما يظن البعض منا أن أهمية الدور التربوي للمعلم في حياة الطالب قد انحسرت مقارنة بالماضي حين كان الأهل يطالبون المعلم بتربية ابنهم حتى و إن تطلب منه اللجوء إلى الضرب الشديد و التي تعكسها المقولة الشهيرة " لك اللحم و لنا العظم " . لكن الحقيقة المؤلمة و التي يعيشها نسبة كبيرة من أبنائنا الطلبة فهي أن حيز الدور التربوي في حياة الطفل و المناط بالأسرة قد انحسر و تراجع لأسباب كثيرة تتعلق بخلل أصاب البنية الأسرية و الذي غالباً ما يتعلق بالطلاق و ما يصاحبه من تفكك أسري إلى جانب حالات العنف المنزلي و الإهمال العاطفي . و في خضم حالة الضياع التي يعيشها الطفل في منزله و محاولته التعايش معها قدر الإمكان لعدم امتلاكه أي خيار آخر يبقى هذا الحيز الفارغ في حياته و الذي تدفعه غريزته إلى ملئه فيبحث عن المثال الأخلاقي المستقر في أقرب مكان له بعد المنزل ألا و هي المدرسة . فإن فشل في العثور على هذا المثال متجسداً في معلمه فسرعان ما ستدفعه الحاجة إلى ملء هذا الفراغ بأي مثال آخر بغض النظر عن أخلاقية هذا المثال الآخر و ارتباطه بمنظومة العادات و القيم مما يزيد من عامل الإنحراف لدى الطالب و ضياع هويته و انتمائه . و قد جرت العادة أن يظن البعض منا خطأً أن الطالب المشاغب هو الطالب الذي يعاني حتماً من مشاكل أسرية و هذه النظرية قياساً على التجربة الشخصية كمعلمة هي نظرية خاطئة . فقد يكون الطالب مشاغباً أوجالساً بهدوء منزوياً في آخر الفصل و آخر قد يكون ملتزماً و متفوقاً لكن تكتشف لاحقاً أن هذا الطالب الهادئ أو المتفوق أو المشاغب هو الذي في أمس الحاجة إليك كمعلم لأن تمثل له العامل الإيجابي و المستقر في حياته التي يعاني فيها أشد أنواع التخبط  فيتطلع إليك ويثق بك أن تكون الشخص الذي سيطمئنه أن الحياة هي أكبر بكثير مما يجري في منزله و أنه يمتلك القدرة على تجاوز كل الظروف التي ولد فيها و أن بمقدوره أن يحقق طموحه  متى ما تمسك بربه و دينه و علمه  و قيمه . 

 من معلمي تعلمت الكثير , و من زملائي تعلمت أكثر , ومن تلامذي تعلمت أكثر و أكثر . 

شبنجلر

 و قد يخشى معظم المعلمين من تورطهم في الحياة الشخصية لطلبتهم  و الذي قد يعد تدخلاً سافراً في حياة الآخرين و حرمة منازلهم و خصوصياتهم  و لهؤلاء المعلمين نقول أن الحق معهم في تخوفهم هذا . لكن ملء الفراغ التربوي و العاطفي في حياة الطالب لا يتطلب التدخل في خصوصياته و الغوص في أعماق تفاصيل حياته الأسرية . كل ما على المعلم فعله هو خلق بيئة تربوية مستقرة في فصله يشعر فيها جميع طلبته دون تمييز بالأمان  و الاستقرار و الاهتمام - سواءً حظوا بهذه البيئة الإيجابية في منازلهم أم لا -  فتصبح بيئة الفصل التي يتعلمون فيها مثالاً صالحاً يتطلعون إلى تطبيقه في حياتهم الخاصة في الحاضر و المستقبل .  إذ يكفي أن يدخل المعلم على طلبته بابتسامة تزين تحيته للفصل , أن يعرف جميع طلبته بالإسم  , أن لا يبخل على أحدهم بكلمة تشجيع  , أن ينظر إليهم باحترام و محبة تشعرهم بقيمتهم كأفراد حتى حين يعاقبهم , أن يكون حازماً وقت الحزم , جاداً وقت الجد , ليناً وقت اللين , مرحاً وقت المرح , واعظاً وقت الوعظ  دون أن يغفل عن مدى أهمية  أن يكون محافظاً في كل هذه الأوقات على منظومة المثل و الأخلاق و القيم التي يعظ بها الطلاب حتى لا يقع في فخ النفاق  و هو أكبر خطر يهدد الطالب خصوصاً الذي يفتقد في أسرته إلى من يقوم بهذا الدور. فإذا حذر المعلم طلبته يوماً من مضار التدخين فليس من المقبول أن يجد أحد هؤلاء الطلبة معلمهم هذا و هو يشرب الشيشة في أحد المقاهي , أو إذا نصحت إحدى المعلمات طالباتها بضرورة الاحتشام في ملبسهن ثم تجد إحدى الطالبات معلمتها في أحد الأسواق في لباس يخالف النصيحة التي قدمتها فهذا من شأنه أن يقوض مصداقيتها في كل ما ستقدمه من نصح و وعظ .

 مثل الذي يعلم الناس الخير و لا يعمل به كمثل أعمى بيده سراج يستضيء به غيره و هو لا يراه.  

و قد يعتبر البعض أن المعلم يملك الحق في أن يحيا حياته الشخصية بحرية كاملة طالما هو خارج حدود المدرسة . إدارياً و قانونياً هو يملك هذا الحق,  لكن أخلاقياً     و تربوياً لا . فكما أن لكل مهنة خصائصها و متطلباتها التي تلقي بعبئها على عاتق أصحابها فإن مهنة التعليم من أشق المهن التي تتطلب من صاحبها قدراً كبيراً من التضحية بالذات   و الصبر  و الثبات على المبدأ و الترفع عن المغريات الصغيرة منها و الكبيرة في سبيل الوصول إلى الغاية الشريفة ألا و هي تحقيق الرسالة التربوية المكلف بها المعلم  و التي سيحاسب عنها في الدنيا و الآخرة. فها هو الملا عثمان قد عاش حياته مثالاً حياً لما وعظ به طلبته طوال الثمان و الخمسين عاماً التي قضاها في التدريس , ما سلك فيها يوماً إلا سلوك المؤمن التقي الورع الذي دأب بكل ما أوتي من علم و جهد و قوة على غرس القيم الإيمانية  و الأخلاقية قولاً و فعلاً في قلوب طلبته . و بشهادة التاريخ و الناس فالملا عثمان في مدرسته هو ذاته الملا عثمان في منزله هو ذاته الملا عثمان في مجتمعه لا تناقض في شخصيته التي يعيشها في كل أبعاد حياته .  و لهذا السبب و هذا السبب فقط  وثق به طلبته و وضعوه مقام القدوة الحسنة منذ أن كانوا صغاراً يتتلمذون على يده حتى شبوا و تخرجواو أصبحوا رجالاً يصلون من خلفه أثناء إمامته في مسجد خالد بن الوليد في المنصورية يستمعون إلى خطبه و وعظه . حتى إذا ما جاء شهر رمضان المبارك تدافع المئات من المصلين إلى المسجد حرصاً على أداء صلاة التروايح في ظل إمامة هذا الرجل الصالح و الذي سخر حياته في سبيل الله سبحانه و تعالى فاتقى ربه في علمه و لسانه و فعله فكان خير معلم و خير مرب و خير ابن بار لوطنه و أمته . و إلى جانب التعليم و الإمامة فقد احتل الملا عثمان موقعاً مضيئاً آخر في ذاكرة وطنه بصفته مأذوناً شرعياً و كان أكثر ما يفتخر به الكويتيون أن يعقد قرانهم على يد الملا عثمان عبداللطيف العثمان .  و هو و إن انتقل إلى رحمة الله تعالى فهو لم يترك أبناءه و طلبته دون نصيحة حقة من معلم أحبهم في الله فجاءت كتابته وصية منه إليهم بمثابة الخاتمة الحسنة لكل الدروس و لكل السنين و الأعوام  و الأيام التي قضاها في رحاب العلم و التربية .   

  و أرى نفسي أنا أيضاً لا أملك إلا أن أختم إرث الملا عثمان عبداللطيف العثمان بمثل ما ختم به تاريخه وذلك بمشاركة وصيته مع القارئ عله ينتفع بها انشاءالله و يرى في كلماتها قبساً من تاريخ هذا الوطن العريق في التربية و التعليم و الذي قام على أعناق رجال و نساء من المربين  و المربيات الأفاضل  . 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا و نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و بعد ,

فأوصيكم و نفسي بتقوى الله فإنها توقي مَقتهو غضبه وتستدعي رضاه ومَنَّه . احفظوا الله يحفظكم , و اشكروه يزدكم . الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم .

أولادي مروا بالمعروف و انهوا عن المنكر ترزقوا و تجبروا . أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون . و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا و لا يغرنكم بالله الغرور , إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا , إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . 

الملا عثمان عبداللطيف العثمان 

  و إن كانت هذه الإضاءة الأخيرة من تجربة الملا عثمان  تدل على شيء فإنما تدل على عنفوان روح المعلم مهما بلغ به العمر و مهما مرت عليه الأعوام بعد تقاعده أو تركه لمجال التعليم . فرغم قسوة النقد و الإرهاق و الضغوطات و ثقل المسؤوليات فكأني أرى روح المعلم لا تشيخ مع الجسد ربما لأن نورها يعيش في قلوب و عقول المئات و الآلاف من الصغار و الشباب و الرجال و النساء . فكم منا لا يزال يحمل في قلبه ذكرى طيبة لمعلمه و هو يربت على كتفه تشجيعاً له على إجابة صحيحة فتعتد ثقته بنفسه بعد أن كانت مهزوزة ,  و كم منا لا يزال يكتب الحرف كما تعلمه صغيراً لأن في عقله لا طريقة أخرى غير التي أراه اياه معلمه , و كم منا لا يزال يحمل في روحه نصيحة من معلمه عمل بها فرزقه الله الهداية و النجاح و الفلاح و ها هو يشارك أبناءه بها . ربما هنا يكمن سر الجمال في مهنة التعليم  و الذي يستحيل أن تجده في أي مهنة أخرى . هذا الجمال الذي لا يراه و لا يعيشه من المعلمين إلا من آمن به حقاً و سعى إليه بكل ما يملك من عزم و حب و قوة ,و هؤلاء هم الجل الأعظم من المعلمين في حياتنا و هؤلاء هم من يجب أن نضعهم نصب أعيننا حين نتعلم و نعمل و نربي لأن وهج نورنا إنما يشع من ماء أعينهم و عرقهم و دمائهم و صحتهم و قلقهم وتضحيتهم و صبرهم و حتى كرامتهم حباً و إكراماً لنا .  

 رحم الله معلمينا الأحياء منهم و الأموات

 و جزاهم عنا خير الجزاء و أنار دربهم إلى الجنان كما أناروا قلوبنا بالعلم و الإيمان .

 

عدد الزائرين:

355 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تغيير اللغة

arenfrdeestr