ماذا يمكن أن تقول عن رجل آثر الصمت على الصيت معظم سني حياته ؟
ماذا يمكن أن تقول عن رجل آثر العطاء بلا مقابل احتساباً لوجه الله تعالى ؟
ماذا يمكن أن تقول عن رجل آثر أن يخدم وطنه بهدوء و تواضع بعيداً عن التكسب و ضجة مديح الناس؟
لا يسعني إلا أن أقول :رحم الله المعلم الحق .
ولد الملا محمد عبداللطيف العثمان في فريج العوازم قرب مسجد الفارس في الكويت عام 1900م لعائلة عرفت بدينها و سعيها الحثيث وراء العلم . التحق مع أخويه عبدالله و عثمان بمدرسة المباركية حيث تلقى ما تيسر له من العلم وفق نظام المدرسة المعمول به آنذاك . و كان من المواد التي درسها الأستاذ محمد مبادئ القراءة و الكتابة و حفظ بعض سور القرآن الكريم و قواعد التجويد و الفقه و النحو إلى جانب السيرة النبوية و شيئ من تاريخ الخلفاء الراشدين . و كما هو الحال مع العديد من جيل المربين الأوائل كانت المباركية بمثابة الأرض الطيبة التي نبتت فيها بذرة المعلم في قلوب العديد من أبنائها و من بينهم محمد وإخوته.
في عام 1930 م قرر الأخوة الثلاث افتتاح مدرسة خاصة بهم تحت اسم مدرسة الملا عثمان. و قد عمل الأخوة الثلاث كمعلمين فيها إلى جانب لفيف من الأساتذة الأفاضل حيث توزعت مهام تدريس المواد المختلفة بينهم كل حسب علمه , و عليه جاء تدريس القرآن الكريم من نصيب الملا محمد و الذي ما كان ليكون أسعد من حمل شرف الرسالتين : التعليم و الدين . و لم يقتصر الدور التربوي للملا محمد في تعليم القرآن الكريم على المدرسة بل امتد إلى تدريس القرآن حيث هو الأحب إلى الله في رحاب مساجده و هو مسجد السرحان الكائن حالياً أمام البنك المركزي الكويتي حيث تولى الملا محمد الإمامة . و قد أتخذ الملا محمد من تدريس القرآن الكريم رسالة عمل على حملها طوال حياته حيث تولى تدريس القرآن الكريم قراءة و حفظاً و تجويداً دون أن يتقاضى أي أجر على علمه فجاء عمله احتساباً لله و ابتغاءً لمرضاته فما انقطع عن تأدية رسالته إلا بوفاته ضارباً المثال النير في صدق العطاء و المحبة .
و قد يجد البعض منا دون أن يعترف حقيقة بذلك أن في صورة الملا و هو يعلم الصبية أمامه تلاوة بضعة آيات من القرآن الكريم صورة متخلفة للتعليم البدائي القائم أساساً على التعليم الديني. ربما يحتمل هذا التصور شيء من الحقيقة إذا ما نظرنا إليها من زاوية أسلوب التدريس و بيئة الفصل و التي وفقاً لمعايير ذاك الزمن و الموارد المتوفرة كان أفضل ما يمكن توفيره من بيئة تعليمية تخدم المجتمع , لكن الخطورة تكمن إذا ما خلطنا بين أسلوب التدريس و مادة التدريس المتمثلة في تعليم القرآن الكريم . و للأسف فإن هناك محاولات إعلامية و فنية انتشرت على المستوى العربي تحاول النيل من تلك الصورة و وصمها بالتخلف بل و تطالب بتقنين التعليم الديني في المدارس تحت ذريعة محاربة الإرهاب , و يغيب عن هؤلاء أن القرآن الكريم هو كتاب الله عز و جل وعليه فهو محكم العلم كله بجناحيه الديني و الدنيوي.
كما و أن أسلوب التلقين الذي اعتمده الملا في الماضي فيما يتعلق بتحفيظ القرآن الكريم قد أثبت على مر الزمن و تعدد التجارب و بالأخص اعتماد الامتحان التحريري في تقييم الطالب أنه لهو الأسلوب الأصح لأن الطالب حينها يستمع إلى اللفظ الصحيح الواضح لمفردات القرآن فيعيدها من وراء معلمه و فق أحكام التلاوة و التجويد الصحيحة المناسبة لعمره و مقدرته. فإذا ما طبق المعلم أسلوب التلقين في تحفيظ القرآن الكريم لطلبته سنجد أن الطالب منذ بداية التحاقه بالمدرسة في مرحلة الروضة متمكناً من اللفظ الصحيح لمفردات القرآن الكريم بدايةً من السور القصيرة و حتى بقية أجزاء القرآن الكريم على امتداد سنوات دراسته الإثني عشر . و هذا التمكن من تلاوة القرآن الكريم سينعكس حتماً على مستوى الطالب في مادة اللغة العربية و التي تعاني نسبة كبيرة من طلبتنا من ضعف تراكمي فيها وصل إلى حدود الضعف في القواعد الأساسية في مختلف فروع اللغة من نحو وصرف و بلاغة و حتى قراءةً و كتابة .
و الدليل على مدى تأثر تعليم اللغة العربية بتعليم القرآن الكريم أن الأجيال السابقة التي تعلمت القرآن الكريم بأسلوب التلقين و حفظته كاملاً أثناء سنوات الدراسة سواءً في عهد الكتاتيب أو بدايات التعليم النظامي قد تميزت بمهارات لغوية عالية تفوق بكثير تلك التي نشهدها الآن في زمننا المعاصر حتى على مستوى الكتاب و الأدباء و الصحفيين و الشعراء. و إن كان هذا يدل على شيء فإنما يدل على أهمية الرجوع إلى مبدأ تعليم القرآن الكريم كوحدة مستقلة عن مادة التربية الإسلامية في المنهج الدراسي و هو الاتجاه الذي طبقته وزارة التربية و التعليم في دولة الكويت خلال السنوات الثمان الأخيرة . و السؤال هو هل ستشهد مدارس الكويت في السنوات المقبلة ارتفاعاً في معدل مستويات الطلبة في مادة اللغة العربية بالتوازي مع تعليم مادة القرآن الكريم ؟ أعتقد أن الجواب مرتبط بالنهج الذي سيتبع في تعليم القرآن الكريم و هل سيقتصر الأمر على الطالب مستقبلاً أن يثبت حفظه للآيات غيباً بتسميعه لها بصورة جوفاء دون مراعاة لأحكام التلاوة و التجويد و النطق الصحيح و روحية الآية الكريمة التي نزلت كما هو الحال عند التقييم التحريري . لأن الخوف حينها أن يجد الطالب في مادة القرآن الكريم مادة سهلة يكفيه فيها أن يحفظ منها ما هو مطلوب بشكل ببغائي سرعان ما يتبخر من ذاكرته فور انتهاء الامتحان و حينها لن يكون للمادة الأثر المرتجى الذي ننشده جميعاً في عقول أبنائنا. إلا أن بحثنا في موقع توجيه مادة التربية الإسلامية في دولة الكويت التابع لموقع وزارة التربية و التعليم يبشر بنتائج طيبة إذا ما اتبعت خطة منهج تدريس القرآن الكريم في المدراس بروحيتها و حذافيرها . فأسلوب التلقين هو الأسلوب الأساسي في تحفيظ القرآن في جميع مراحل التعليم من الصف الأول انتهاءً بالصف الثاني عشر . فالمعلم يقرأ الجزء المطلوب من السورة عدة مرات ثم يتبع التلقين قراءة جماعية للطلبة من بعد معلمهم يتبعها قراءة فردية للطلبة . كما و يعد التزام الطالب في قراءته بأحكام التلاوة و التجويد التي تم تعلمها من البنود الأساسية التي يتم تقييم مستوى الطالب بناءً عليها . و هذا التوجه في إعادة إحياء دور التلقين قي تعليم القرآن الكريم تدعمه الدورات التدريبية التي خصصتها وزارة التربية في دولة الكويت لتأهيل كافة معلميها في مادة التربية الإسلامية , منها على سبيل المثال لا الحصر دورة طرق تدريس القرآن الكريم و دورة التجويد . إذاً التوجه موجود و المنهج قائم و يبقى الاتكال كما هو دائماً في حال التعليم على عناصره الأساسية الثلاث : المعلم – الطالب و الأسرة , و إن كان من قدر المعلم دائماً أن يحمل الهم الأكبر و المسئولية الأعظم في تحقيق النتائج المرجوة .
و عدا عن الجانب اللغوي فإن تعليم القرآن الكريم للأطفال خاصة يدخل بقوة ضمن النطاق التربوي في العملية التعليمية من باب تشكيل الوعي الديني و الروحي في عمر مبكرةلدى الطالب . فالحقيقة أن لكل منا بوصلة أخلاقية هي التي توجه صاحبها إلى الخيارات التي سيتخذها في حياته , و يعد التعليم الديني و بخاصة حفظ القرآن الكريم الأساس في تشكيل تلك البوصلة لأن القرآن هو الصلة الحقيقية بين العبد و ربه و التي تتجلى فيها حقيقة الإسلام و روحه . فعلى الرغم من تعدد المذاهب و الاختلاف في التفسير إلا أن الأصل الشرعي في القرآن الكريم هو واضح اللسان و البيان . و عليه إذا ما تخرج الطالب من المدرسة و قد درس القرآن الكريم كاملاً دراسة متأنية متعمقة تتناسب مع التدرج العمري و الفكري للطالب فكأنما تعلم منظومة الأخلاق و أصل الأحكام الشرعية كاملة و المطلوبة منه الالتزام بها في يوميات حياته التي يعيشها . و على النقيض مما يتخوف منه البعض و يروج له من أن تخصيص حيز أكبر من المنهج الدراسي العام للجانب الديني أنما يقوي من ظاهرة الإرهاب و يغذيها فالمنطق يدل على أن العكس هو الصحيح . فإذا ما أرادت الدولة أن تنأى بشبابها و أبنائها عن خطر المنظمات الإرهابية أو المتطرفة فإن الطريق الوحيد أمامها هو أن تثقف أبناءها دينياً ضمن بيئة المدرسة ثقافة دينية متكاملة الأوجه يعتد بها بحيث تنتفي الحاجة لدى الشباب اللجوء إلى مصادر أخرى خارج نطاق الدولة . حتى إذا ما حصل و لجأ أحدهم إلى مصدر آخر فإن البنية الأساسية التي تشكلت لديه طوال الإثني عشر عاماً التي قضاها في المدرسة ستمنحه القدرة على التمييز بين من هو متطرف في فكره و بين من هو معتدل و بين من هو عالم و بين من هو جاهل و في النهاية عليه هو أن يناقش و يفكر و يختار الطريق التي يريد بملء إرادته و يتحمل هو عواقب هذا الاختيار خيراً كان أم شراً . و إنَّ هذا لأفضل بكثير من أن يغرر بأبناء الوطن على يد جهات أو أشخاص لا يفقهون في الدين شيئاً لكن يسهل عليهم ممارسة الخداع و تجنيد الشباب المندفع بفطرته إلى سلوك الالتزام الديني و غسل أدمغتهم بحيث لا تستجيب إلا لأفكارهم السامة في سبيل تنفيذ مخططات هي ليست من الإسلام بشيء فيضحون بين ليلة و ضحاها ناراً تحرق تراب أوطانهم و قلوب عوائلهم . و من هنا نعود و نؤكد على أهمية الخطوة التي اتخذتها وزارة التربية في دولة الكويت من تخصيص مادة مستقلة للقرآن الكريم و التي أعادت إلى الواجهة أحد أهم أسس التعليم الديني الإسلامي إلى الواجهة التربوية و التعليمية .
و لإن النجاح في إيصال الرسالة إنما تعتمد على شخص من يحملها فإن أهمية التزام معلم القرآن الكريم و التربية الإسلامية بالجانب الروحي و الأخلاقي لشخصيته تكتسب أهمية مضاعفة و ذلك لارتكاز مجاله العلمي على منظومة الدين و الأخلاق و القيم الإيمانية و الاجتماعية. فعين الطالب ترى بفطرتها في معلم الدين المثال الحي على ما يعظ به خصوصاً في زمننا هذا حيث اختلط الحق بالباطل و تحولت قيم أخلاقية واضحة إلى قيم ضبابية تحتمل التفسير والتأويل , فإن لم يكن المعلم على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه في التزام العيش وفقاً لروحية ما يعظ به وقع في فخ النفاق . و أسوأ ما قد يحصل حينها أن لا يرى الطالب العيب في شخص معلمه بل فيما يعظ به خصوصاً إذا ما افتقد في حياته الخاصة إلى المثال الأخلاقي الأعلى الذي يرتكز عليه في إطلاق الحكم على ما يراه و ما يتعرض له هو و الآخرين من تجارب داخل و خارج المنزل . و لهذا يضطلع المعلم في المجال الديني بدور تربوي فعال في حياة الطالب في صورة هي مستمدة من التراث الإسلامي يؤدي فيها الشيخ و العالم الجليل دوراً رئيسياً في التوجيه و الإرشاد . و هكذا كان الملا محمد العثمان كسائر جيله من المربين ممن التزموا العلم و الأخلاق ميثاقاً يعيشون وفقاً له في حياتهم فكانوا المثال الأعلى لمجتمعاتهم . فما عرف عن أحدهم يوماً أنه استغل علمه في تحقيق مآرب سياسية أو في تحقيق مكاسب مادية أو شهرة آنية بين الناس , بل جسدوا في نهجهم أعمدة علم و حكمة لأوطانهم و سند للناس جميعاً الفقير منهم و الغني , العالم منهم و الجاهل , القريب منهم و البعيد .
فها هو الملا محمد عرفه الناس بالتزامه الأخلاقي و بوقاره و شخصيته القوية لكن أكثر ما عرف به هو صمته. ذاك الصمت الذي يفوق الكلام قيمة و مقاماً حين تفقد الكلمات معناها و تُفرغ من مغزاها فتضحو عبئاً على صاحبها و المستمع إليها . فما عرف عنه أنه استغاب أحداً و لا أفشى سراً و لا شارك في حديث لا هدف مرجوٌ منه . و كان من شأن هذا الصمت أن جعل من صاحبه مقصد الكثيرين من الناس الذين وثقوا فيه و رأوا فيه خير ناصح و خير حافظ لأسرارهم و همومهم. كما و كان من نهجه في حياته رحمه الله عيادة المرضى و الاطمئنان عليهم و معالجتهم بما حباه الله من خبرة في مجال الطب الشعبي و التداوي بالأعشاب دون أجر أو مقابل , كما و كان يرقيهم بقراءة بعض الآيات الكريمة و الأدعية لما لها فيها من شفاء للمؤمنين و ما تسبغه من طمأنينة و صبر على تحمل مصابهم . و هو و إن ابتلي بالعمى في سن السادسة و العشرين رحمه الله فإن ابتلاءه بفقدان بصره لم يزعزع من عزيمته فأقعدته عن العمل و ألزمته البيت بل ها هي دفعت به إلى أن يشارك في حياة من حوله و في خدمة مجتمعه كمعلم و جار و مداوٍ و صديق مؤتمن على الهموم و الأسرار ضارباً المثل الحق لأبنائه و طلبته فيما هو ديدن المؤمن القوي الحامد الشاكر لله جل جلاله في السراء و الحامد الشاكر لله جل جلاله في الضراء .
ربما حديثي عن هذا الرجل قليل لكن هناك ما ينبئني أن هذا القليل هو ما كان الملا محمد العثمان ليرغب به و يشجعني عليه . هذا الرجل حافظ القرآن و معلمه فما بخل يوماً بعطائه و محبته للناس . فالعلم الحق ما كان يوماً عطاءً يقابل بأجر مادي أو معنوي بل هو مسؤولية تحمل صاحبها على مشاركته مع عائلته و مجتمعه و وطنه فينتفع بها الناس في دنياهم , فما بال لو كان هذا العلم الذي يحمله المرء هو درة العلم كله و محكم الكتاب المنجي في الدنيا و الآخرة . و نحن إذ نحمد الله سبحانه و تعالى أن حفظ ذكره فسخر للناس و الأوطان رجالاً و نساءً يحملون القرآن في قلوبهم يعلمونه لأبنائنا و بناتنا في المدارس و المساجد فحق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم :