مدرسة العثمان بين دفتي التاريخ
عند الحديث عن أي تجربة إنسانية مهما بلغت من درجات التفرد و الخصوصية فلا يمكن عزلها عن المحيط التاريخي الذي تشكلت فيه , و هذا هو الحال مع مدرسة العثمان . فبداية مدرسة العثمان لم تأت في اليوم الذي فتحت فيه أبوابها للمرة الأولى و لا حتى في اليوم الذي قرر فيه أبناء عبداللطيف العثمان إنشاء مدرسة خاصة بهم , بل جاءت بداية هذه المدرسة في اليوم الذي فتحت فيه مدرسة المباركية أبوابها لاستقبال الدفعة الأولى من طلابها سنة 1911 و من ضمنهم الطالبان عبدالله عبداللطيف العثمان و عثمان عبداللطيف العثمان .
و قد شكلت مدرسة المباركية حجر الأساس الذي قامت عليه تجربة التعليم النظامي في الكويت . فما قبل مدرسة المباركية اقتصر مفهوم التعليم في المجتمع الكويتي على الكتاتيب و حلقات العلم التي أدت دورها التاريخي في إزكاء شعلة العلم في كل بيت . لكن لأن الكويت طالما كانت منذ نشأتها منفتحة على العالم الخارجي كمركز تجاري يعتمد أبناؤها في لقمة عيشهم على السفر و الترحال في البر و البحر مع ما يقتضيه هذا السفر من مشاق و احتكاك مع شعوب الأرض و قبائلها , فقد تميز مجتمعها بتنور معرفي ساهم في الدفع بتجربة التعليم النظامي لما وجدوه من ضرورة مواكبة التطور الذي رأوه في نظام التعليم المتبع في مجتمعات أخرى. و على الرغم من شح الموارد المادية و البشرية فلم يشكل هذا الواقع حجر عثرة في الدفع بمسيرة التعليم النظامي في الكويت و التي تشكلت نواة تأسيسها في ديوان الشيخ يوسف بن عيسى القناعي أثناء الاحتفال بذكرى المولد النبوي عام 1910م. خلال الاحتفال و من وحي الاحتفاء بمولد النبي صلى الله عليه و سلم تحدث السيد ياسين الطبطبائي عن ضرورة فتح مدارس نظامية تتيح لطلابها معرفة دينهم و سنة رسولهم الكريم خير المعرفة و كذلك تعلم ما يتطلبه المجتمع من مهارات وعلوم معرفية تساهم في طلب الرزق و تلبية الاحتياجات المعيشية . و قد حمل الشيخ يوسف بن عيسى على عاتقه حمل لواء إنشاء هذه المدرسة عن طريق اكتتاب قائم على التبرعات و مساهمات رجالات الكويت و تجارها حتى وصل رأس مالها إلى 77500 روبية بالإضافة إلى تبرع أولاد خالد الخضير ببيت كبير كمبنى للمدرسة . و في فترة وجيزة لم تتجاوز التسعة أشهر منذ حديث السيد ياسين الطبطبائي في مولد الرسول الكريم فتحت مدرسة المباركية أبوابها للدراسة في تاريخ 22 / 12 / 1911م فكانت أول مدرسة نظامية في تاريخ الكويت.
إذاً هو اليوم الأول للطالبين عبدالله وعثمان في مدرسة المباركية و سيختبران للمرة الأولى نظام التعليم المعتمد في المدرسة بعد أن نالا قسطاً من التعليم في الكتاتيب و حلقات العلم . و قد اعتمدت مدرسة المباركية نظاماً تعليمياً قائماً على الشعب. فالمدرسة مقسمة إلى خمسة أقسام يتشعب القسم الأول منها إلى إربع شعب مرتبة على النحو التالي : تعلم الحروف الهجائية – كتابة الكلمات و الجمل و مبادئ الحساب من حيت كتابة الأعداد و الجمع – القراءة و الكتابة و الطرح – قواعد الإملاء و التجويد و جدول الضرب . بعد أن يتدرج الطالب في اكتساب المهارات المطلوبة منه في جميع الشعب الأربعة وفق الترتيب المبين أعلاه , يرفع الطالب إلى القسم الثاني حيث سيكتسب مهارات و علوم ذات مستوى أعلى من مثل القسمة و حسن الخط و مبادئ الفقه . و يترفع الطالب وفقاً لهذا النظام حتى يصل إلى القسم الخامس و الذي فيه سيكمل كتاب العبادات في الفقه مفصلاً , و قواعد اللغة العربية و التوحيد و الفرائض . و مما ميز نظام الشعب في مدرسة المباركية آنذاك أن تدرج الطالب و انتقاله فيما بين الشعب و الأقسام لم يأت موحداً بالنسبة لجميع الطلبة , بل اعتمد بشكل فردي على قياس مستوى الطالب ذاته. أي أن عملية تقييم الطالب لم تعتمد على إجراء اختبارات شهرية و اختبارات نهاية العام يخضع لها جميع الطلبة , بل اعتمدت عوضاً عنها على شهادة مدرس الفصل الذي يدرس فيه الطالب . فإن رأى مدرس الفصل أن الطالب قد ارتفع مستواه عن بقية أقرانه بما يهيئه لأن ينتقل إلى الشعبة ذات المستوى الأعلى رفع تقييمه هذا إلى مدير المدرسة . بعدها يقوم مدير المدرسة بعد أن يحاط علماً بتقييم معلم الفصل بإجراء امتحان للطالب يشاركه في وضعه و الإشراف عليه معلم الفصل المسئول عن الشعبة الأعلى. فإن اجتاز الطالب الامتحان بما يرضي كلا من مدير المدرسة و معلم الشعبة الأعلى تمت الموافقة على نقله .
و قد لعب نظام الدراسة و التقويم المعتمد في مدرسة المباركية دوراً محورياً في تقرير مسار تجربة عبدالله و عثمان كطالبين في المدرسة. فكلا الطالبين أظهرا نبوغاً مبكراً و انكباباً على العلم ساهم في ارتقائهما السلم التعليمي في مدرسة المباركية بخطىً ثابتة و سريعة حتى أصبحا معلمين فيها على الرغم من صغر سنهما. و في مقابلة سجلت له في كتاب " أساتذة في ميدان آخر " مع الكاتب عبدالفتاح المليجي يستذكر الملا عثمان تجربته في مدرسة المباركية . فحين كان الملا عثمان طالباً في الصف الرابع أوكلت إليه إدارة المدرسة مسئولية القيام بمهام التعليم كأحد معلمي مدرسة المباركية و التي كانت تواجه شحاً في أعداد المعلمين في ذاك الوقت , و عليه أصبح الطالب بين ليلة و ضحاها معلماً يدرس الطلاب القرآن الكريم و اللغة العربية و مبادئ الحساب في فصول تبلغ كثافتها ما بين الأربعين إلى الخمسين طالباً . و هو لمن المؤكد أن نبوغ الملا عثمان كطالب هو ما شجع إدارة المدرسة على اختياره كمعلم رغم حداثة سنه و قلة خبرته , لكن إن حكمنا على تجربة الملا عثمان مما آلت إليه الأمور في حياته و ما اتخذه من خيارات فربما كان ما رآه فيه العلماء الأجلاء و على رأسهم العالم الجليل السيد عمر عاصم الأزميري مدير المدرسة يتعدى مسألة نبوغه إلى حقيقة فطرته . فكل منا جبل على فطرة هي التي تدفع بصاحبها إلى السير في الطريق التي تحقق شغفه و تجسد رؤيته في الحياة و قد سار الملا عثمان طوال حياته في تلك الطريق منذ أن كان في الصف الرابع حتى جاء اليوم الذي اقترن فيه شغفه باسمه في ذاكرة الوطن : المعلم و المربي الفاضل الملا عثمان عبد اللطيف العثمان . و ربما كان هذا هو وجه الاختلاف بين عثمان و أخيه عبدالله منذ أن كانا طالبين . فكما هو الحال مع أخيه , تميز عبدالله بذات النبوغ و الحب للعلم لكن فطرته دفعت به لأن يحقق شغفه في طريق آخرلم يجده في مسار التعليم الذي أخلص طوال سنين في حمل رسالته فحفر طريقه بنفسه حتى جاء اليوم الذي اقترن فيه شغفه باسمه في ذاكرة الوطن : التاجر و المحسن الكبير عبدالله عبداللطيف العثمان .
مرت أعوام منذ دخول الأخوين عثمان و عبدالله مدرسة المباركية التي أضحت الآن قبلة الطلاب في المجتمع الكويتي بعد نجاحها كمدرسة نظامية رغم كل الأزمات العنيفة التي مرت بها و كادت أن تعصف بها لولا فضل الله عز و جل ثم التفاف المجتمع الكويتي حول مدرستهم التفاف السور حول مدينتهم . و قد دفع نجاح تجربة المباركية بحاكم الكويت آنذاك الشيخ احمد الجابر الصباح إلى تكرار هذا النموذج التعليمي في مدرسة أخرى على أن تؤسس على منظومة من الأفكار الإصلاحية المنبثقة من تجربة مدرسة المباركية التي آثر القائمون عليها بالإبقاء على نظامها دون تغيير . و في عام 1921م تمت الموافقة على إنشاء المدرسة التي سميت تيمناً بحاكم الكويت بالمدرسة الأحمدية و كان من أهم التغييرات التي شهدتها هو إدخال اللغة الانكليزية من ضمن منهجها الدراسي. وقد انحصر تعليم اللغة الانكليزية قبل افتتاح مدرسة الأحمدية بمدرسة الإرسالية الأمريكية التي فتحت أبوابها عام 1917م . و على الرغم من إقبال عدد من الشباب على الدراسة في مدرسة الإرسالية لما تتمتع به اللغة الانجليزية من أهمية حيوية في مجالات التجارة و السياسة و السفرإلا أن قلق المجتمع الكويتي من الطبيعة التنصيرية للمدرسة و أهدافها التبشيرية أثر في عملها , فجاء قرار إدخال اللغة الانكليزية في منهج مدرسة الأحمدية كعامل مطمئن لأهل الطلبة ممن يرغبون في دراسة اللغة الانجليزية لكن ضمن بيئة إسلامية كويتية .
و قد تولى عبدالله العثمان لاحقاً في مدرسة العائلة مسئولية تعليم اللغة الانجليزية من ضمن مجموع المواد الموكلة إليه و كانت مادة اللغة الإنجليزية مادة اختيارية تعطى فقط لمن يطلبها . و لا يوجد لدينا ما يدل على كيفية تعلم عبدالله للغة الانجليزية خصوصاً و أنه بقي في المباركية معلماً بعد تخرجه منها و لم يلتحق بالمدرسة الأحمدية حسب علمنا . إلا أن أنه نقل عن عبدالله العثمان اتصاله المستمر بأطباء الإرسالية الأمريكية لرغبته بالإلمام ببعض المعلومات حول التداوي و أثر بعض الأدوية. لذا من المرجح أن تعلمه اللغة الانجليزية هو تعلم ذاتي جاء عن طريق اتصاله بالإرسالية الأمريكية و احتكاكه بالعاملين لديها .
مضت اثنان و عشرون عاماً على افتتاح مدرسة المباركية قرربعدها الأخوة الثلاثة الملا عثمان و الأستاذ عبدالله و الملا محمد ( على أن ينضم إليهم لاحقاً أخوهم الأصغر عبدالعزيز فور تخرجه ) إنشاء مدرسة خاصة بهم في سكة بن الدعيج . و وفقاً للتاريخ الهجري الذي كان معتمداً آنذاك و اعتماداً على يوميات عبدالله العثمان فقد تم افتتاح مدرسة العثمان في يوم 30 رجب عام 1350هـ الموافق حسب تقديراتنا العام 1931 ميلادياً . و قد سميت المدرسة في بداية تأسيسها بمدرسة الملا عثمان عبداللطيف العثمان و أخوانه على أن توكل مهمة إدارتها إلى الأخ عبدالله العثمان .و حتى في ذاك الوقت المبكر من تجربتهما في الحياة كان من الواضح الطريق التي سيسلكها كل أخ . فقد ذاع صيت الملا عثمان في مجال التعليم و أصبح من رجالاته الذين سخروا جل حياتهم في سبيل حمل راية العلم و تطويره فسميت المدرسة باسمه احتراماً وتقديراً له من قبل إخوته و لمعرفتهم بتقدير المجتمع و أبناء الوطن لدور هذا الرجل. و على الرغم من ذلك فالملا عثمان لم يتول إدارة المدرسة التي تحمل اسمه إذ أوكلت مسؤولية إدارة المدرسة للأخ عبدالله العثمان فكان مديرها و مسؤولها المالي إلى جانب مسؤوليته في التدريس كأحد معلمي المدرسة فجاءت تجربة الأخوة أمثولة في التعاون و وضع كلٌ في المكان المناسب الذي سخر له. و إن كانت تعد هذه الخطوة انفصالاً للأخوة عن مدرسة المباركية إلا أنها جاءت في جوهرها امتداداً لنظامها التعليمي . فغالبية المدراس الأهلية التي افتتحت في فترة لاحقة لتجربة التعليم النظامي أنشئت على يد خريجي مدرسة المباركية ممن تتلمذوا وفق المنهج التعليمي و الإداري المتبع في تلك المدرسة ثم عملوا فيها كمدرسين . لذا كان من البديهي أن يتبع الخريجون النظام ذاته في إدارة مدارسهم مع الحفاظ في الوقت ذاته على درجة من الخصوصية و الاستقلالية التي ميزت تجربة كل مدرسة وفقاً لرؤية صاحبها . فجاء انتشار هذه المدارس كدعامة أساسية ساهمت في بناء مفهوم التعليم النظامي في مختلف مناطق الكويت فمثلت مع تجربتي المدرسة المباركية و الأحمدية طفرة تعليمية نقلت المجتمع الكويتي من عهد الكتاتيب إلى عهد المدارس النظامية .
خلال السنوات الثلاث اللاحقة لافتتاح المدرسة عمل الأخوة الأربعة بعد انضمام أخيهم الأصغر الأستاذ عبدالعزيز جنباً إلى جنب في إنجاح مشروعهم العائلي وفقاً للهيكل و النظام الذي تم البحث فيه في الفصل السابق . و قد ضمت المدرسة عدداً كبيراً من الطلاب و شاركهم في مسؤولية التعليم السادة و المربون الأفاضل ممن وقعت أسماؤهم بين أيدينا و هم : الملا صالح بن الشيخ مساعد العازمي , الملا ناصر المسفر , عبدالعزيز البالول , صالح محمد الرشدان , يوسف الدعيج , الملا بكر و الملا جاسم . و قد احتوت المدرسة الأخوة الأربعة بين جدرانها إلى أن جاءت سنة 1353هـ و التي شهدت نهايتها نقطتي تحول في تاريخ مدرسة العثمان . نقطة التحول الأولى جاءت في يوم الثلاثاء 16 شوال 1353هـ بانضمام الأخ عبدالله العثمان إلى بلدية الكويت بوظيفة كاتب براتب يبلغ سبعين روبية . و لم يكن من المستغرب آنذاك أن يتخذ المعلم لنفسه مهنة أخرى مساندة ليزيد من مدخوله الذي قد لا يكفيه في حال اقتصر عمله على التعليم فقط . فكان المعلم يعمل في مهنة البناء كما يشارك في رحلات الغوص و التجارة جنباً إلى جنب مع طلبته في المدرسة فكان القدوة لهم في العلم و العمل. لكن مع افتتاح بلدية الكويت عام 1930م بعد رحلة قام بها الشيخ يوسف بن عيسى القناعي إلى البحرين و اطلاعه على تجربة البلدية هناك بدأت الكويت تحولها إلى دولة مؤسسات . و قد جاءت بلدية الكويت بنظامها الإداري المستقل لتمثل نواة السلطة التنفيذية في الدولة. و مع تطور نظام البلدية و تكليفها بمهام إدارية و قانونية تخدم المجتمع و تنظم شؤونه فقد نمت الحاجة إلى تعيين موظفين من أبناء الوطن قادرين على حمل مسؤولية تنفيذ هذه المهام على عاتقهم . فتشكلت على إثره منظومة من الوظائف التي تتطلب درجة عالية من العلم و المهارات لا تتوفر إلا لدى المعلمين و خريجي مدارس المباركية و الأحمدية ممن يتمتعون بالمهارات المطلوبة . و قد وجد عبدالله العثمان في وظيفة البلدية طريقاً آخر قد يحقق فيه قدره و في ذات الوقت يتسنى له خدمة مجتمعه بشكل أفضل خصوصاً فيما يتعلق بمهاراته المالية و الإدارية التي أوصلت به إلى جانب إخلاصه و تفانيه و حبه للناس إلى إدارة البلدية عام 1945م . لذا و على إثره قرر الأخ عبدالله في تاريخ 21 صفرسنة 1354هـ الإنفصال عن أخوته و تسخير جل اهتمامه في وظيفته الجديدة.
لم يتجاوز انفصال الأخ عبدالله عن المدرسة فترة الشهرين حتى تعرضت مدرسة العثمان لهزة أخرى تمثلت بانسحاب الملا عثمان من المدرسة باتخاذه قرار العودة إلى مدرسته الأم المدرسة المباركية . و قد جاء قرار انضمام الملا عثمان إلى هيئة التدريس في المباركية تزامناً مع نقطة تحول جوهرية في تاريخ التعليم في الكويت و المتمثلة بإنشاء مجلس المعارف الذي بدأ عمله في عام 1936م .
بعد نجاح تجربة كل من المدرستين المباركية و الأحمدية في استقطاب أبناء المجتمع الكويتي للالتحاق بركب التعليم النظامي و زيادة الإقبال عليهما برز تحدٍ آخر أمام القائمين على المدرستين ألا و هي مسألة توحيد المباركية و الأحمدية تحت مظلة إشرافية واحدة من حيث المناهج و الأهداف التعليمية و التربوية و ذلك بهدف بلورة نظام تعليمي موحد . و قد جاءت المحاولة الأولى عام 1923م حين كانت المباركية تحت إشراف السيد حمد الخالد الخضير و الأحمدية تحت إشراف الشيخ يوسف بن عيسى القناعي إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل لأسباب مادية. إلا أن عام 1936م حمل في جعبته عاملاً رئيسيا لم يكن موجوداً أثناء المحاولة الأولى ألا وهو تحول الكويت الى دولة مؤسسات مع إنشاء البلدية عام 1930 م . و قد أدى ترسيخ مفهوم العمل المؤسساتي الحكومي في المجتمع الكويتي و فاعليته في تنظيم شؤون المجتمع و أموره إلى بروز إمكانية تطبيق ذات النظام فيما يتعلق بالتعليم بحيث يتحول من كونه تحت إشراف أفراد إلى نظام حكومي مؤسساتي متكامل قائم بذاته .
نتيجة لما سبق أضحت مسألة توحيد النظام التعليمي من حيث وضع المناهج و خطط التدريس وإقرار الأهداف التربوية و التعليمية وإرساء نظم إدارة البرامج التعليمية و إدارة شؤون الطلاب ضرورة لا بد منها من أجل الدفع بعملية التنمية و التطوير في دولة الكويت. فجاء قرار إنشاء مجلس المعارف الذي ضم إليه خيرة أبناء الوطن من المثقفين و رجال العلم و الإدارة ممن يملكون الخبرة و القدرة على طرح الخطط و الأفكار التنموية و مناقشتها و تنفيذها دون مماطلة أو تسويف بما يخدم المجتمع الكويتي و أبنائه. و يشير الدكتور عبدالمحسن الجارالله الخرافي في موسوعته " مربون من بلدي " نقلاً عن الشيخ عبدالله النوري في كتابه " مذكرات عن حياة المرحوم الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت العاشر " أن أول مجلس للمعارف قد انعقد في دار الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في جمادى الأولى عام 1355هـ الموافق شهر أغسطس عام 1936م . و أهم ما قرر خلال هذا الاجتماع هو ضم مدرستي المباركية و الأحمدية تحت إشراف الشيخ يوسف بن عيسى القناعي . و مع هذا القرار التاريخي اندفعت عجلة التنمية و التطوير في القطاع التعليمي بكافة أوجهه في تحول جذري هو الأسرع في تاريخ التعليم في الكويت و الذي يمكن تلخيص نتائجه في النقاط التالية :
1. إرساء نظام مجانية التعليم في المدارس الحكومية بعد أن تم تخصيص ميزانية خاصة بالإنفاق على كافة مصاريف متطلبات التعليم و تطويره فينتفي معها الحاجة إلى جمع التبرعات و تحصيل أجور من الطلاب . و إن جاء إقرار نظام مجانية التعليم في مرحلة سابقة لإقرار الدستور الكويتي , إلا أن عملية إقرار مجانية التعليم تدل و بصورة واضحة لا لبس فيها أن مبدأ المساواة في الحقوق بين أفراد المجتمع هو مبدأ راسخ في وجدان المجتمع الكويتي مواطنين و حكام . فكلٌ يملك فرصة متساوية مع أقرانه في الحصول على ذات المستوى من التعليم دون أن يخضع لأي شكل من أشكال التمييز , و هو ما عجزت عن تطبيقه في المرحلة الزمنية ذاتها أكبر الديموقراطيات في العالم و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي ظل نظام التعليم فيها برغم تطوره يرزح تحت أسوأ أشكال التفرقة و التمييز العنصري في مخالفة صريحة لمبادئ الدستور الذي قامت عليه.
2. التوسع في إنشاء المدارس و التي بدأت عملية تطبيقها مباشرة مع افتتاح ثلاث مدارس حكومية في العام التالي لإنشاء المجلس : مدرسة للبنات و مدرستين للبنين . و استمرت عملية التوسع تأخذ مجراها على خطىً ثابتة حتى وصلت عدد المدارس في عام 1950 م إلى ثلاث و عشرين مدرسة تبدأ بالرياض و تنتهي بالثانوي و يصل عدد طلابها إلى 5400 طالب و طالبة .
3. وصول أول دفعة من خيرة المدرسين العرب عام 1936م و الذين تم انتدابهم من قبل المجلس للاستفادة من خبراتهم في عملية تطوير نظام التعليم في الكويت و التوسع في تطبيقه . و يذكر المجتمع الكويتي لهؤلاء المدرسين إخلاصهم و تفانيهم في تعليم أبناء الكويت في ظروف كانت الكويت لا تزال تعيش فيها في ظل بيئة صعبة .
4. إرسال خيرة الطلاب الكويتين في بعثات تعليمية على نفقة الدولة إلى الخارج و عدم الاكتفاء بانتداب مدرسين عرب من خارج الدولة . و استهلت مسيرة البعثات بإيفاد عدد من الطلاب الكويتين إلى دار المعلمين في بغداد عام 1938م في سبيل تهيئة جيل متخصص من المعلمين الكويتين المؤهلين خصوصاً و إن علمنا أن المنهج المتبع في مدارس الكويت آنذاك كان المنهج العراقي . و في عام 1939م بدأت مسيرة البعثات التعليمية إلى مصر حيث تم إيفاد البعثة الأولى للدراسة في الأزهر الشريف . و كان من أهم نتائج إرسال البعثات التعليمية إلى مصر استبدال المنهج العراقي بالمنهج المصري عام 1945م .
و ما كان هذا الدفع السريع لعجلة التنمية و التطوير في التعليم لتنجح في سنوات قليلة لولا تضافر جهود المعلمين الكويتين الأوائل ممن حملوا راية العلم منذ بدايات المدرسة المباركية و من ضمنهم الملا عثمان عبداللطيف العثمان . فحين تأسس مجلس المعارف و تبين للجميع جدية المجلس في حمل لواء تطوير التعليم في الكويت ما كان للملا عثمان أن يكتفي بالوقوف جانباً. فرغم محبته الصادقة لإخوته و مدرسته التي أسس لها و أحبها و المدخول المجز الذي كانت تدره عليه إلا أن مكانه الطبيعي الذي سيحقق فيه قدره و يخدم فيه مجتمعه هو هناك في مدرسة المباركية حيث ابتدأ طريقه في الحياة كمعلم و طالب علم , و حيث ابتدأ كل شيء . منذ ذاك الوقت وهب الملا عثمان عمره و أفنى شبابه في سبيل نهضة التعليم و البحث المتواصل في طرق التطوير و التجديد بما لا يخالف القواعد الإسلامية التي قام عليها المجتمع الكويتي . و قد يكون هذا السبب في الإبقاء على لقب الملا مرادفاً لاسمه على الرغم من أن لقب الأستاذ هو اللقب الأصح و المرادف لمن هم في مستوى علمه و خبرته و تاريخه في ميدان التعليم الحديث . فقد كان من أشد المؤمنين بأن الإسلام هو منارة العلم و لا بد من الأخذ بهذا الاعتبارعند النقل من تجارب الخارج و الإفادة منها اقتداءً بالمسلمين الأوائل عند تأسيسهم للحضارة الإسلامية التي وصل نورها شعوب الأرض و أقاصيها. و هكذا ظل الملا عثمان فارساً يخدم وطنه في مدارس الكويت ثمانٍ و خمسين عاماً قضاها في التدريس تنقل فيها بين المباركية و الأحمدية و المدرسة القبلية ثم مدرسة المرقاب التي عمل فيها عشرون عاماً حتى جاء الوقت الذي ترجل فيه عن فرسه و تقاعد .
نعود مرة اخرى إلى عام 1936م سنة انفصال الأخوين عبدالله و عثمان عن مدرسة العائلة في فترة وجيزة لا تتجاوز الشهرين . و لحكمة ارتآها رب العالمين يشاء القدر أن يقع بين أيدينا دفتر المحاسبة الخاص بسنة الانفصال 1353 هـ - 1354هـ و الذي حمل في صفحتين متفرقتين أولاهما في بداية الدفتر و الأخرى في نهايته توقيع و إقرار كل من الأخوين عبدالله و عثمان بالانفصال و إبراء الذمة و تسليم الأمانة لبقية الأخوة . ففي الصفحة التي وقع فيها الأخ عبدالله إقرار الانفصال سلم العهدة للأخوة عثمان و عبدالعزيز . أما في الصفحة التي وقع فيها الأخ عثمان إقرار الانفصال سلم فيها العهدة إلى إخوته محمد , عبد العزيز و عبدالله . نعم , الأستاذ عبدالله عاد إلى مدرسة عائلته احتراماً و تقديراً لقرارأخيه الملا عثمان و حباً لعائلته التي عنى لها مشروع المدرسة الشيء الكثير خصوصاً أخويه الملا محمد و الأستاذ عبدالعزيز . و في صباح يوم الثلاثاء الموافق 24 ربيع الثاني سنة 1354هـ عاد الأستاذ عبدالله مديراً لمدرسة عائلته التي أصبحت الآن تحمل اسم مدرسة عبدالله العثمان.
تمر الأعوام على مدرسة العثمان مرور الفصول الأربعة على الأرض . فصل الصيف حيث البدايات التي تبشر بالخير قادماً من بعيد مع خطوات الصبية الصغار المتراكضة نحو مدخل المدرسة , و أصوات المعلمين الصادحة في السماء تحت أشعة الشمس التي قد تكون قاسية أحياناً لكن كريمة دوماً في عطائها . ثم فصل الشتاء الذي يحل ضيفاً عاصفاً بارداً مزمجراً منذراً باقتلاع الآمال حتى إذا ما صادف القلوب الدافئة بالإيمان و الحب و الإخلاص و العمل عاد من حيث أتى خائباً . ثم تأتي بشارة فصل الربيع حيث يحين الحصاد و تنمو الفروع الصغيرة إلى أشجار تظلل الوطن بفيئها و تترسخ جذورها ضاربة في عمق ذاكرة التاريخ و وجدانه . ثم فصل الخريف حيث تتساقط أوراق الشجر على الأرض بهدوء و سكينة لتحملها الريح في عباب السماء لعلمها بوقار هذه الأوراق و إكراماً لها هي التي لم تسقط إلا لينتهي كل شيء فيولد مرة أخرى من جديد كما هو الوطن لا يموت أبداً في قلوب أبنائه.
حل العام 1946م . أصبحت الكويت الآن دولة نفطية على وشك أن تفتح في تاريخها فصلاً جديداً من الرخاء و الازدهار بعد الملاحم التي سطرها أبناؤها بدمائهم وعرقهم و علمهم على صفحاتها . مدرسة العثمان و ما تبقى من المدراس الأهلية التي صمدت أثناء مرحلة التوسع و التطور في نظام التعليم الكويتي ستقفل أبوابها جميعاً بعد أن أدت رسالتها بإخلاص وتفان قلما شهده التاريخ . أما الأخوة الأربعة فكلٌ سيسير في الطريق التي اختار , تتقاطع طرقهم و تفترق كما هي سنة الحياة في كل شيء . لكن تبقى درة العائلة مكنونةً في قلوبهم جميعاً يتشاركونها فيما بينهم مدى الدهر, يشع نورها خالداً في عيني صاحبها إبان الشدة والرخاء لا تنطفئ حتى بعد أن يغيب التراب تلك العينين الجميلتين التي لا يزال يذكرها الطلبة حتى بعد ما شاب رأسهم ببريقها الهادئ الوقور , عيني معلمهم تنظر إليهم من أمام لوح الحجر القديم .