رحلة في تاريخ الغوص

essay image

في خضم بحثي في الدفاتر المحاسبية القديمة التي تركها جدي المرحوم عبداللطيف العثمان، وجدت نفسي منجذباً إلى عالم ساحر من التراث الكويتي البحري، الأمر الذي دفعني للاهتمام أكثر بكتب التراث الكويتي والتعمق بها، لذا ارتأيت أن أشرك القارئ الكريم معي أحد هذه الكتب و«بتصرف»، وهو كتاب «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي» للكاتب سيف مرزوق الشملان، ويتناول هذا الكتاب علاقة أهل الكويت بتجارة الغوص على اللؤلؤ، التي أسهمت في بناء الهوية الكويتية وتشكيل قيمها الاقتصادية والاجتماعية، إذ لم تكن مهنة الغوص على اللؤلؤ قديماً مجرد وسيلة للرزق، بقدر ما كانت مدرسة في الصبر والشجاعة والإصرار، وصراحةً إن الرجوع إلى مثل هذه المراجع القيّمة والمُتخصصة في تاريخ الكويت وحقبة الغوص على اللؤلؤ يكشف لنا ما لهذا التاريخ من أحداثٍ عظيمة ومفارقاتٍ عجيبة وقصص تدعو للفخر والإكبار، وأُخرى تدعو للحزن والخوف من الأهوال والمشاق التي كان يُصاب بها أهل البحر، إذ كان الغواصون يتحملون صنوفاً من شظف العيش والمخاطر والأمراض لا تخطر على بالنا اليوم، فعدا عن الطعام والماء الحار الذي يتناولونه، كانت المساحة التي يجلسون بها على سطح السفينة أو المركب ضيقة جداً، وخاصة أثناء النوم حيث يكون الواحد منهم ملاصقاً للآخر، ناهيك عن النوم على سطح السفينة الرطب وعلى المحار الخشن في كثيرٍ من الأحيان، وتزداد مشقة هذا العمل بما يواجهه البحارة من أمراض وعلل، فضلاً عن مخاطر البحر وأهواله، وقد جاء الكاتب على ذكر وشرح العديد من تلك الأمراض التي كان يُصاب بها أهل البحر ومنها على سبيل الذكر، انفجار الأذن بسبب الضغط القوي في قاع البحر، والجروح والصدمات وذلك بسبب قرب السفن من بعضها قائلاً بذلك «وكم من غيصٍ أصيب بجرح في رأسه من جراء حجر غيص آخر أصابه وهو خارج إلى سطح البحر فيخرج والدم ينزف من رأسه»، ومن الأمراض أيضاً يذكر الكاتب «الطنَّان» و«أبو اقشاش» وهو مرض غالباً ما يصيب الغاصة نتيجة سوء التغذية في رحلته البحرية، و«الشاقة» و«الصرع» و«الكحة والسعال» وغيرها الكثير من الأمراض والمشاكل الصحية، فمن خلال هذا الكتاب ومن خلال قراءتي لأرشيف جدي وخصوصاً قراءتي لدفتر «الردة» الخاص بالمرحوم، أدركت تمام الإدراك أن رحلة الغوص على اللؤلؤ لم تكن مجرد رحلةٍ بسيطة في وسط البحر أو الغوص إلى الأعماق واستخراج اللؤلؤ، إنما كان لها حساباتٌ خاصة تُعتمد وتسري على جميع العاملين والمشاركين فيها، وأن ميعاد السفر والإبحار يختلف من فصلٍ إلى آخر، وأن هناك مقاييس دقيقة تُتبع، وأن مصطلح الردة يُفيد العودة والرجوع مرة ثانية إلى البحر، وتكون هذه الرحلة في العادة بعد انتهاء موسم الغوص الكبير في آخر الشهر التاسع من السنة، ويكون البحر حينها بارداً، الأمر الذي يُقلل من همة الكثيرين للغوص على اللؤلؤ وهذا ما يُفسر لنا اقتصار الذهاب على السفن الصغيرة فقط، كما واتضح لي من خلال التعمق في سطور هذا الدفتر الواقع الاجتماعي المُشرق المليء بالتسامح الأخوي والتكافل الاجتماعي الذي ساد في المجتمع الكويتي آنذاك، والذي كان ولا يزال سمة أهل الكويت منذ الأزل، ومنها على سبيل المثال المسامحة والعفو عند وفاة أحد البحارة في ديونه، والعفو على المتعسرين في سداد نفقات المأكل وغيرها وهذا من ما دون بكتاب «الردة» العائد لجدي عبداللطيف رحمه الله، وختاماً فإن اختياري للحديث عن الغوص في هذا المقال إنما يعود إلى الأهمية البالغة لهذا الموضوع، ولما وجدته من عدم معرفة عند أبنائنا من الجيل الحالي عن الغوص سوى اسمه، وتذكيرٌ بأهمية الحفاظ على تراثنا البحري الثمين للأجيال القادمة.

وتسلمون

المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الرابع والعشرون من ديسمبر 2024 (الرابط الإلكتروني).

رحلة في تاريخ الغوص - PDF