ربوع الشام
مع اقتراب كل إجازة، يبدأ التفكير في وجهة السفر: الخليج، أوروبا، أم شرق آسيا؟ ومع كل مرة تعود إلى ذهني أمنية قديمة: ليت الأوضاع تستقر في الشام وبيروت، فهاتان المدينتان ـ وما تحيط بهما من قرى ومصايف ـ تحملان في ذاكرة جيل الستينيات والسبعينيات مكانةً خاصة، إذ كانتا وجهة الكويتيين والخليجيين الأولى لقضاء الصيف، ففي ذلك الزمن، كانت الرحلة تبدأ براً من الكويت إلى البصرة، ثم المبيت في بغداد، قبل الانطلاق في الطريق الطويل والمُمل بين الرطبة والرمادي، مروراً بعمّان، وصولاً إلى دمشق، ومنها لمن يرغب في استكمال الرحلة إلى جبل لبنان، كانت بحمدون، حمانا، وفالوغا، الوجهات المفضلة للكويتيين، بينما أحبّ القطريون قضاء صيفهم في عالية، حيث كان يقع قصر الشيخ صباح السالم رحمه الله، أما الشام، فقد استقطبت المصطافين الخليجيين في بلودان والزبداني، حيث كان الصيف بأكمله يُمضى بين الجبال الخضراء والمناخ العليل، ولم يكن امتلاك منزل شرطاً للإقامة، فقد كانت العائلات اللبنانية تستضيف المصطافين بحفاوة، تؤجّر منازلها أو أدواراً منها، في أجواءٍ من الكرم والضيافة التي لا تُنسى، وكانت الجبال تعج بالحياة، والتجارة تزدهر، والجميع يستفيد، بل إن مساجد، مثل مسجد العثمان ومسجد الخرافي، في بحمدون الضيعة والمحطة، كانت من أوائل المساجد، التي بُنيت في جبل لبنان، دلالةً على الحضور الخليجي في تلك المناطق، ولا أنسى صيف عام 1973، حين بدأت شرارة التوتر في بيروت، بعد احتكاك بين بعض الشباب الكويتيين وجنود المغاوير، تزامناً مع اندلاع الاشتباكات الأولى بين الفصائل الفلسطينية وحزب الكتائب، ولم يكن أحد يدرك أن هذا الحدث الصغير كان بداية لحرب أهلية طويلة، قلبت لبنان رأساً على عقب، وأثّرت على استقرار الشرق الأوسط بأكمله، مرّت السنوات، ولم أعد إلى لبنان إلا بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1992، حين دعاني صديقي المرحوم غسان الدويسان، الذي كان يشغل منصب السكرتير الأول في السفارة الكويتية، وصلت بيروت، وكانت الصدمة كبيرة، المدينة التي غادرتها في السبعينيات، وهي «سويسرا الشرق»، عُدت إليها فوجدتها أكواماً من المباني المدمرة، أما وسط بيروت، الذي كان نابضاً بالحياة، فتحوّل إلى أطلال، أسواق سرسق والطويلة والمحال التي كانت تعج بالناس اختفت، وبائع الجلاب الشهير لم يعُد هناك، وسط الدمار، تعرفت على الشيخ رجاء مكارم، أحد وجهاء الطائفة الدرزية، وسألته عن حمانا، حيث كان منزل والدتي، ونصحني بعدم الذهاب، فالمنطقة لم تكن آمنة بعد، لكنني أصررت، فوافق على مرافقتي، وصلنا المنزل عصراً، وطرقنا الباب، ففتحت لنا عائلة جديدة تسكن هناك، واستقبلونا بكرم، رغم أنني كنت أعلم أن هذا هو بيت والدتي، وكان الشيخ رجاء قد نصحني بعدم التطرق إلى ملكية المنزل، أو إثارة أي حساسيات، لكن الفضول غلبني وسألت عن جيراني القدامى، جورج وزوجته أديبا، فكان الرد صادماً: «جورج؟ قتل من زمان، وأديبا في العصفورية» (مستشفى الأمراض العقلية)، وفي تلك اللحظة، فهمت لماذا نصحني الشيخ رجاء بالصمت، عدنا إلى بيروت، بعد أن اجتزنا أكثر من عشرين حاجزاً أمنياً، بعضها للميليشيات، وبعضها للجيش اللبناني، ومعظمها للجيش السوري، وكان لبنان لا يزال في بداية مرحلة التعافي، لكنني كنت أعلم أن شعبه لا يعرف الاستسلام، فهو شعبٌ يحب الحياة، وسيعيد بناء وطنه مهما طال الزمن، مرّت العقود، وتغيّرت الأحوال، لكن الشوق للبنان وسوريا لم يتغيّر، ونحن الذين عشنا أجمل أيام صيف الطفولة والشباب بين جبال لبنان وأزقة ومصايف الشام، وأذكر جيداً المطاعم على ضفاف نبع نهر بردى، الذي جف نتاج التصحر، وأذكر مطاعم زحلة وشتورة الجميلة وشاغور حمانا، نحلم بأن يعود الاستقرار، ليعود المصطافون، وتعود تلك الأيام الجميلة، وستبقى هذه المدن محفورة في الذاكرة، مثل قصائد لم تكتمل، تنتظر عودة من أحبها، لتكتب سطورها من جديد، ورغم ما مرَّت به من أزمات فإن الأمل يظل قائماً، فهذه البلاد عرفت الحروب كما عرفت الحب، وعرفت الدمار كما عرفت الجمال، لكنها دائماً ما تنهض من جديد، وأجمل ما أختم به مقالتي هذه، أبيات شعرٍ للمرحوم الوالد عبدالله العثمان من قصيدته «حسناء بحمدون»:
«أقولُ لصاحبي لمَّا دعاني يُسائلني أفي لبنانَ منظرْ
أجبتُ سؤالهُ هلَّا تراني أُمجِّدُ دائماً فيه وأفخرْ
ففي لبنانَ صوتٌ من جمالٍ حباهُ اللهُ فيه ثم قَدَّرْ
إذا ما جئتَ يوماً في ديارٍ تُريكَ حسانُها صوراً وتَسحَرْ»
وبمناسبة عيد الفطر السعيد، أتمنى أن يعم السلام ربوع الشام ولبنان وسائر بلادنا العربية، وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بألف خير.
وتسلمون.
جريدة القبس في عددها الصادر الخميس الثالث من أبريل 2025 (الرابط الإلكتروني).
ربوع الشام - PDF