ثورة القرنفل

essay image

في زيارتي الأخيرة إلى لشبونة، صادف أن يكون آخر يوم لي هناك هو عيد التحرير، والموافق يوم الجمعة ٢٥ أبريل، وبصراحة، لم أكن أعرف كثيراً عن هذه المناسبة قبل زيارتي، ولكن وأنا أمشي في شارعهم الرئيسي، شارع ليبرداده، والذي يعني بالعربية شارع الحرية، لفتت انتباهي الأجواء الاحتفالية هناك، وشارع ليبرداده عندهم مثل ما يقولون «الشانزليزيه حق لشبونة»، مع إنه فيه كل الماركات العالمية والمحال الراقية، لكن للحق لا يمكن مقارنته بالشانزليزيه الباريسي، إلا أنه شارعٌ جميل وله طابعه الخاص، ولكن مشكلته مثل باقي شوارع لشبونة، وهو أن الأرضية مرصوفة بكسر الرخام، وبالرغم من أن هذا النوع من الرصف يُعد تحفة من تُحف الفنون الجميلة، إلا أنه يصبح زلقاً وخطيراً وقت المطر أو لما ترتفع الرطوبة بالليل، فيصير الواحد كأنه يمشي على صابون! فلازم الحذر وأنت تتمشى. كانت الأجواء وقتها فيها شيء مختلف، والمشهد استثنائي، فباعة الورود في كل مكان، وكل الناس تقريباً يحملون زهرة القرنفل أو يهدونها لبعضهم البعض، منظر كان صراحة جميلا ومليئا بالود والمحبة، ومع حلول المساء، تحولت الأجواء إلى مسيرات منظمة تجوب شارع ليبرداده، بلا فوضى ولا تخريب؛ ودفعني فضولي حينها لأسأل صديقي البرتغالي عن سر هذه المناسبة، ولأن البرتغاليين بطبعهم ودودون ويتحمسون حين يتحدثون عن تاريخهم، بدأ يحكي لي بحماس عن زلزال لشبونة الكبير وقصة ماركيز دي بومبال، موضحاً لي أن فهم ثورة القرنفل يمر أولاً عبر فهم تلك الكارثة التاريخية، وماركيز دي بومبال هو شخصية تاريخية مهمة جداً عند البرتغاليين، فبعد الزلزال المدمر سنة 1755، واللي دمّر تقريباً %80 من لشبونة، انسحب الملك لقصره، تاركاً إدارة الكارثة بيد بومبال، الذي أظهر حنكةً وشجاعةً استثنائيتين، فبدأ بتنظيم الإغاثة، وإعادة الإعمار، واضعاً قوانين بناء جديدة تحافظ على سلامة المباني ضد الزلازل، ولا تزال إنجازاته حاضرة حتى اليوم، إذ يتوسط تمثاله ميدان ماركيز دي بومبال أعلى شارع الحرية، أما زلزال لشبونة، فهو من أقوى الزلازل اللي مرت على أوروبا، وقُدرت خسائره البشرية حينها بحوالي ٦٠ ألف شخص، وتأثرت به أوروبا بأكملها، لدرجة أن فلاسفة مثل فولتير كتبوا عنه في أعمالهم، وبالعودة إلى موضوع ثورة القرنفل، ففي يوم ٢٥ أبريل ١٩٧٤، حصل انقلاب عسكري ضد النظام الدكتاتوري بقيادة أنطونيو دي أوليفيرا سالازار وخلفائه، والمذهل هو أن هذه الثورة كانت شبه سلمية بالكامل، فالجنود نزلوا إلى الشوارع حاملين زهور القرنفل، ووضعوها في فوهات بنادقهم بدلاً من إطلاق الرصاص، ومن يومها صار القرنفل رمز الحرية للبرتغاليين، أما الشيء اللي دايم يتردد في بالي، كيف أن بلداً إمبريالياً كان يحكم نص المحيطات، تحول إلى شعب مسالم وودود بهذه الطريقة الجميلة؟ وتفسيري الشخصي، والذي قد يكون مجرد تخمين، هو أن المغامرين والمقاتلين البرتغاليين في العصور الماضية، وخاصة لما اكتشفوا البرازيل واستعمروها، كثير منهم استقر هناك، فبقي في البرتغال الناس اللي يهتمون بالزراعة، ويميلون للحياة الهادئة، واللي بطبعهم أقرب للمسالمة، والدليل على ذلك هو أن سكان البرازيل اليوم حوالي ٢٠٠ مليون نسمة، بينما سكان البرتغال حوالي ١٠ ملايين فقط، فالفرق شاسع، والظاهر أن التركيبة السكانية نفسها تغيّرت على مدى القرون؛ وعن أهل لشبونة فهم ودودون جدًا، ومعظمهم يتكلمون الإنكليزية بدرجات متفاوتة، فما راح تعاني أبدا من التواصل، والأكل هناك، خصوصاً الأسماك، يعتبر من ألذ الأكلات البحرية اللي جربتها، وخصوصاً الأخطبوط الذي له حضور خاص بكل مطبخ برتغالي، واللي ناوي يسافر لها، أنصح أنه ما يطول أكثر من أسبوع بالكثير، لأن لشبونة ومحيطها وإن كانت جميلة وساحرة، لكنها تظل مدينة صغيرة، وممكن تكتفي منها بعد أيام قليلة.

وتسلمون.

 جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء السادس من مايو 2025 (الرابط الإلكتروني).

ثورة القرنفل - PDF