فينيسيا

essay image

في رحلة شتوية إلى ميلان مع الأبناء، أخذنا القطار وقضينا يومين في فينيسيا، أو كما يُطلق عليها العرب «البندقية»، والصراحة ما أعرف عنها الكثير إلّا من خيالٍ زُرِعَ في ذاكرتنا ارتبطت به المدينة من الرومانسية واثنين محبين يركبان الجندول، والجندولي ماسك المجداف ويغني شغلة من الأفلام والرسوم المتحركة، وكما أسلفت خيال شكَّل المدينة في ذهني، وأُضيف إلى ذلك قصة تاجر البندقية، هذه الرواية التي تُعدُّ من روائع الكاتب المسرحي ويليام شكسبير، وغيرها من الأساطير التي ارتبطت بتلك المدينة، وارتبطت بالتوازي بذهني منذ أيام الطفولة، وها أنا الآن أزورُ تلك المدينة وأراها حقيقةً لا في كتابٍ أو فيلم، ولا شك أن الجمال وعبق التاريخ يطغيان عليها، وإن عابتها بعض الروائح الكريهة أحياناً نتيجة ركود المياه في بعض القنوات المائية، وكذلك انتشار الجرذان بشكلٍ ملحوظ، وطبعاً أحسن طريقة تفهم أيّ مدينة جديدة تزورها، إما تحط لك مرشد سياحي، أو تدور مع سمسار تشوف المعروض من العقارات من باب العلم بالشيء، وطبعاً الأبناء اختاروا المرشد السياحي، ويمكن أكثر شيء جذبني في تلك الرحلة ليست المباني ولا جنادل المدينة، إنما تاريخها العريق، فهي من أقدم الجمهوريات في التاريخ، ولها نظام حكم ديموقراطي خاص بهم وبتعريفهم المتماشي مع عاداتهم وتقاليدهم، فهي مدينة التجّار والأغنياء، والحكمُ فيها يتداول بينهم، ويقول المرشد عند زيارة قصر الدوق، الذي يُمثّل الحاكم بالمدينة، والذي يُنتخب من مجلس الأعيان، مِمّن يمثلون كبار العائلات الثرية، بمعنى أن المجلس المُنتخب يمثل فقط الأغنياء والتجّار، وهم من يقومون بانتخاب الدوق، الذي يجب أن يكون أحد أبناء العائلات المعروفة وذي ثروة، يستطيع من خلالها تحمّل مصاريف القصر وما يحمل من كبار وصغار الموظفين، وكذلك عليه إغداق المال على العامة من حينٍ إلى آخر، يعني يبي يصير دوق لازم يتحمّل المصاريف من جيبه مو من جيب الدولة، وهناك أيضاً شرط العمر، فكان سن الخمسين هو الحد الأدنى لتسلّم الحكم، وبعدها ارتفع إلى السبعين عاماً، حيث إن أحد هؤلاء قد مدَّ الله بعمره إلى ٨٥ عاماً، وحيث إن المنصب إلى مدى العمر، فقد ارتأى مجلس الحكم رفع السن علشان دوقهم ما يطول ويتم تداول السلطة، والشيء الغريب في نظامهم أنه ليس للدوق الحق بالجلوس مع الزوار أو السفراء إلّا بحضور ستة من أعضاء مجلس الحكم، وكذلك ليس له الحق في الخروج من القصر إلا برفقة اثنين منهم، وذلك لضمان ألا يتصرف أو يتفق مع الغير من دون معرفة المجلس، فتلك رقابة صارمة على تصرفات الدوق خوفاً من أن ينجرف بفسادٍ أو خيانةٍ للمدينة، وعاشت جمهورية فينيسيا أحد عشر قرناً، وامتهنت التجارة وقتال القراصنة وحراسة الطرق البحرية، وخلال القرن الثالث عشر انضمت بأساطيلها إلى الحملات الصليبية أملاً في السيطرة على الموانئ البيزنطية، فتحولت الجمهورية إلى إمبراطورية بحرية سيطرت على شرق البحر المتوسط لثلاثة قرون تالية، وتحالفت البندقية مع المماليك في مصر في وجه البرتغاليين، ثم تصادمت مع التوسع العثماني، إلى أن فرضت وجودها، المهم البندقية قد تكون من أوائل الأنظمة التي طبقت نظام مكافحة الفساد (نزاهة) وطبعاً بطريقتهم، ويلاحظ في بعض مراكز المدينة منحوت حجري به ثلاثة وجوه، وهناك فتحة بفم كل وجه، وهذا المنحوت مخصص للإبلاغ عن أي من مظاهر الفساد أو الشكوى، فيضع الشاكي أو اللي يبي يفتن على واحد بفم أحد الوجوه ورقة بها المعلومة والأدلة، وتقع الورقة بصندوق به مفتاحان، ويحضر ثلاثة من الشرطة، اثنان منهم لديهما مفتاح، والثالث يراقبهما حتى يُقنِّن التلاعب، وتُرسل الأوراق إلى المحكمة، وهناك يُستدعى المتهم، فإن ثبتت براءته يُستدعى المبلّغ ويُطبق عليه حكم الجريمة المُبلغ عنها. 

واستمرت البندقية في ازدهارها إلى أن وقعت بيد نابليون، الذي حرص على إضاعة وتفكيك كيان تلك الإمارة، وخصوصاً التجاره، ففقدت تلألؤها، وأضحت تقتات على فتات السياح، البندقية مدينة جميلة وتستحق الزيارة قبل أن يبتلعها البحر، فارتفاع منسوب المياه وفيضانه اليومي وطريقة تعايش المدينة معه أمور تستحق النظر، ولكن أنصح بعدم زيارتها صيفاً لارتفاع نسبة الرطوبة، وكذلك الروائح الكريهة، عدا عن الأعداد الكبيرة من السياح.

وتسلمون.

المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء السابع من فبراير 2023 (الرابط الإلكتروني)

فينيسياPDF  

عدد الزائرين:

153 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تغيير اللغة

arenfrdeestr