البعثة
كنتُ قد تكلمت في مقالاتٍ سابقة عدة عن المرحوم محمود الجراح أحد رواد الحركة الفكريّة والثقافيّة في الكويت، وهو من الشخصيات التي نهضت في بلاد الاغتراب وتركت بصمةً علميةً وأدبيةً في كل مكانٍ حطت رحالها فيه، الأمر الذي دفعني لأُطلق عليه لقب «رحّالةُ العلم والأدب»، ولعل أبرز ما دفعني للحديث عن هذا الموضوع هو إصداري الذي أعددته عن المرحوم الجراح والذي سيرى النور قريباً، حيث تناولت فيه رحلته العلمية والفكرية التي بدأت مع ابتعاثه إلى القاهرة مع كوكبةٍ من رجالات الكويت الذين أظهروا نبوغاً وتفوقاً، الأمر الذي دفع بمجلس المعارف آنذاك بابتعاثهم إلى مصر لاستكمال تحصيلهم الدراسي والعلمي، ولا أُخفي عليكم أن ما رأيته وما زلت أراه من تراجعٍ فكري وعلمي عند الجيل الناشئ وما تبعهُ من ضعفٍ في المناهج التعليمية التي أدت إلى هذا التدهور، إضافة إلى الواقع الحالي المُعاكس لما كانت عليه الكويت سابقاً من الأسباب التي دفعتني من حين لآخر للتطرق لهذا الموضوع بمحاولة لإحياء تراث هؤلاء المؤسسين للحركة الفكرية والثقافية في الكويت، مذكرا هذا الجيل بأهمية ذلك المجال لمستقبل الوطن، فمنذ أن تأسست الكويت والكويتيون يثبتون للعالم بأسرهِ حبهم للعلم والمعرفة. وبالعودة إلى موضوع مقالنا لليوم، فقد سُميت دفعة المرحوم الجراح وزملائه إلى القاهرة آنذاك بدفعة 1945، وضمت حينها العديد من رجالات الفكر والثقافة، وكان عددهم يقارب الـ60 طالباً من الذين أكملوا مرحلة الثانوية العامة وما دونها وسافروا من الكويت إلى القاهرة براً، وقد ضمت تلك البعثة كلاً من الأساتذة الأفاضل: محمود الجراح وحمد عيسى الرجيب وحامد شعيب ونوري شعيب ويعقوب القطامي وعبدالله الأيوبي ومعجب الدوسري وغيرهم الكثير. ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن تلك البعثة لم تكن الوحيدة في الكويت، فبالاستناد إلى المصادر التي تحدثت عن تلك البعثات ومنها نشرة البعثة التي قام مركز البحوث والدراسات الكويتية بإعادة إصدارها بالصورة التي كانت عليها قديماً، جاء ما يلي: «كانت أول بعثة طلابية أُرسلت لمصر للدراسة مكونة من أربعة طلاب أُرسلوا للدراسة بالأزهر الشريف عام 1939م، ولحقتها بعثات أُخرى عام 1943 مكونة من 17 طالباً للالتحاق بالمدارس، ثم في عام 1945م أُرسلت بعثة أكبر ضمت 37 طالباً»، ومن الأسماء التي لمعت في تلك البعثات، والتي كان لها صوتٌ مسموعٌ في عالم الكتابة والتأليف والإسهام في الحياة الثقافية، الأستاذ عبدالعزيز حسين والأستاذ عبدالرزاق البصير والأستاذ أحمد العدواني وغيرهم الكثير، ووجود الطلبة الكويتيين هناك لم يقف عن حدود التحصيل العلمي والمعرفي، إنما اجتهدوا على إنشاء نشرة فكرية وأدبية، عُرفت كهمزة وصل بين الطلاب الكويتيين في مصر وذويهم في الكويت، أُطلق عليها اسم «البعثة»، هذه المجلة التي قام عليها نخبة من الرعيل الأول من أبناء الكويت متحدين مع نوابغ بعض الدول العربية الشقيقة ليحملوها على أكتافهم وينهضوا بها ويشكلوا عصر نهضةٍ ثقافيةٍ وعلميةٍ، وقد صدر العدد الأول من المجلة في ديسمبر عام 1946م، ولم يكن القصد منها الكسب المادي، إنما قناة فكرية تنشر الثقافة والأدب بشتى أشكاله، فكانت تُباع بثماني أنات أي ما يعادل نصف روبية آنذاك، وكان الهدف الأول والأساسي لها أن تُعرّف الكويت إلى البلاد العربية، ففسحت المجال أمام أقلام الشباب الكويتي الناهض ليكتب في النقد والأدب والنثر، تمهيداً للنهضة الاجتماعية التي تخلفُ النهضة الفكرية عادةً. وفي هذا الصدد أودُّ الإشارة للقائمين على المناهج التعليمية الحالية بأن يعرفوا طلابنا وجيلنا الناشئ برواد الكويت الأوائل وإصداراتهم الفكرية ليحذوا حذوهم. وفي مقالات قادمة سنكون على موعدٍ مع رائدٍ من رواد العلم والفكر والأدب من الذين أسسوا وكوَّنوا تاريخ الكويت الثقافي والفكري.
وتسلمون.
المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الأربعاء الرابع والعشرون من مايو 2023 (الرابط الإلكتروني)
البعثة PDF