برثاء الحسين

في شهر محرم من كل عام نستذكر ونحزن لما آل إليه آل بيت رسولنا الكريم وما حدث لهم من غُبنٍ وظلمٍ وخيانةٍ، أمرٌ غيّر مجرى التاريخ وسطر أعظم شهادة تُنير دروب الحق من ظلام الغاصبين، وللأسف أمة محمد لم تتعلم جيداً ولم تستنر من تلك الشهادة، وأخذت بالخلاف والشقاق وتُسيّس ما كان له أن يُسيّس، فانقسموا ما بينهم كما يحلو للبعض تفريقهم باستعمال مصطلحات لتأجيج خلاف يقوده الغلاة من كِلا الطرفين، وشخصياً تعلمت الوسطية من والدي -رحمة الله عليه- الذي لم يكن يُفرق ما بين هذا أو ذاك، وأُحب أن أُكرر ذكر تجربة شخصية حدثت معي، فقبل سنوات توجهت إلى الأحساء برغبة لبناء جامع للمرحوم والدي، وهناك مشروع تقسيم يعود لأحد أثرياء إخواننا الشيعة، وكان طالباً مبلغاً نظير فرز الأرض لنا، وقلت له: «أنا ببني مسجد على تلك الأرض وأنت بتاخذ فلوس عليها»، صاحبنا خرج عن الموضوع وسألني: عبدالله العثمان ذاك الثري المحسن شنو يقرب لك؟ أجبته: الوالد، صمت قليلاً، وقال: والدي وجدي أيام ضيق العيش ذهبا لوالدك واستضافهما وما قصر معهما وما فرق بينهما وبين الآخرين، وعليه ورداً لِجميلهِ فأرض الجامع له ومن دون مقابل. والقصد من تلك القصة أن الوسطية والتسامح وقبول الآخر هي أساس التعايش، وما قام به الوالد -رحمة الله عليه- من إحسانٍ قبل ثمانين عاماً عاد عليه خيراً وأجراً وترحماً، ومن خلال اطلاعي على أرشيف والدي، خصوصاً سجلات مدرسة العثمان التي أسسها مع إخوانه الملا عثمان والملا محمد والأستاذ عبدالعزيز العثمان في ثلاثينيات القرن الماضي، لطالما لفت انتباهي في سجلات المدرسة ذلك التعدد والتنوع في أسماء الطلبة المنتسبين لها على اختلاف مذاهبهم، وكلما اطلعت على سجلات والدي المحاسبية رأيت دعمه لمساجد وحسينيات إخواننا الشيعة، فوالدي رجل دينٍ ومعلمٍ وإمام لمسجد قصر نايف لأعوام عديدة، كما درّس المذهب المالكي، وكان حريصاً على مشاركة إخواننا الشيعة في مجالس عزائهم، فحب رسولنا وآل بيته لا يختلف عليه اثنان، وفي هذا السياق أستشهد بما سطره الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- من أبياتٍ واضحة المضمون، وبتصرف أنقل عنه:
تأوّه قلبـــــي والفــــــؤاد كئيـــــــب وأُرّق نومـــي فالسهادُ عجيبُ
ومما نفى نومي وشـــــيب لِمتــي تصاريف أيــــامٍ لهـن خطــوبُ
فمن مبلغٌ، عني الحسـين رســـــالةً وإن كرِهَتْـــــها أنفــسٌ وقلوبُ
ذبيحٌ، بلا جــــرمٍ كــأنّ قميصـــــــه صبيــغ بماء الأرجوان خضيب
فللسيف إغـــوال وللــرُّمـــــح رنّة وللخيل من بعد الصهيل نحيب
تزلزلت الدنيــــــــــا لآل محــمـــــدٍ وكادت لهم صمّ الجبـــال تذوب
وغارت نجوم واقشـــعـرت كواكــب وهتك أستارٌ وشــــُق جيــــوب
يُصلّى على المبعوث مـن آلِ هاشــمٍ ويُغزى بنـــــوه إن ذا لعجيـب!
لئــن كـان ذنـبي حــب آل محمــــــدٍ فذلك ذنب لســـــت عنه أتـوب
هم شُفعــائي يوم حشــري وموقفـي إذا ما بدت للنــــاظرين خطوب
وفي جانب آخر أنشد وأضاف:
يـا راكـبــاً قِـف بـالـمُـحَـصـبِ مـن مِـنـى واهــتــف بـقـاعــدِ خَـيْـفِـهـا والـنـاهِـضِ
سَــحَـراً إذا فــاض الـحَـجـيـجُ إلـى مِـنـى فـيـضـاً كـمُـلْـتَـطـم الـفُـراتِ الـفـائِــضِ
ومـن شـعـر الإمــام الــشــافــعــي أيضاً:
يـا آلَ بـيْـتِ رســولِ الـلّــه حُـبُّــكـمُ فــرضٌ مـن الــلّــه فـي الـقــرآنِ أنــزلَــهُ
يـكـفـيـكُـمُ مِـنْ عَـظـيـمِ الـفـخـرِ أنـكــمُ مَـنْ لـم يُصــلِّ عـلـيـكـم لا صَــلاةُ لَــهُ
وفي الختام، نتقدم بأحر التعازي لإخواننا الشيعة، إذ لا يُمكن أن يَمُر يوم استشهاد سبط رسول الله من دون أن يخيم الحزن علينا جميعاً، فهذه الكويت وهؤلاء هم أهلها محبة وتراحما وتلاحما في الأحزان والأفراح.
وتسلمون.
المصدر: جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الخامس والعشرون من يوليو 2023 (الرابط الإلكتروني)
برثاء الحسينPDF




