الفرزدق الكويتي
من أجمل ما يمكن قراءته بسلاسة وغزارة بالمعلومات وتنوعها، أجده في مجلة البعثة التي كانت تصدر عن بيت الكويت في القاهرة، ودائماً ما أشعر بأن تلك المجلدات التي جمعت تلك الأعداد ليست بمتناول الجميع، وربما لا يعلم الكثيرون بوجودها، ولذا ومن وقت لآخر سأتطرق لأجمل ما كُتبَ في أعدادها، وبتصرف أنقل لكم اليوم بعضاً مما جاء في العدد التاسع منها، الصادر في نوفمبر 1951م، تحت عنوان كاظمة، للكاتب والمؤرخ الكويتي أحمد البشر الرومي، وتحت عنوانٍ فرعي «الفرزدق كويتي! نعم إنه كويتي قبل الكويتيين»، فالفرزدق عزيزي القارئ ليس مجرد شاعر، بل مؤرخٌ لغويٌ وحارسٌ للتراث العربي، ويكفينا فخراً أن كاظمة هي موطن الفرزدق الأول، هذه البقعة الجغرافية التي تحولت إلى مختبر شعري ومنصة إبداع لعملاق اللغة العربية يستلهم إبداعاته منها، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن كتابات وأبحاث المؤرخ الرومي هي من أوائل الأعمال التي بحثت وتحدثت عن المواقع التاريخية في الكويت، وعن قيمتها في كتب الأدب والتاريخ وفي أشعار الشعراء العرب القدامى، كما لفت النظر إلى ضرورة البحث عن ماضي هذه المواقع الضارب في أعماق التاريخ، وبالعودة إلى مقالتنا أقتطف بعضاً مما كتبه الأديب الرومي إذ قال: «الفرزدق هو همام بن غالب بن صعصعة من مشاهير الشعراء وهو علم من أعلام الأدب العربي، ويقال إن شعر الفرزدق حفظ ثلث اللغة العربية، إذ لولا شعره لضاع الشيء الكثير من اللغة». ويتابع قائلاً: «إن كاظمة القريبة منا هي الموضع الذي اختاره الفرزدق محلاً لسكناه -وربما ولد فيها- ففيها نظم أكثر قصائده الخالدة، وفيها كانت ترده قصائد جرير...»، و«كاظمة موطن الفرزدق الأول لا يبارحها إلا في أيام الربيع، حيث يرتاد العشب في المناطق القريبة من كاظمة، مثل الفريدة والسادة والرحيّة، وهي مواضع تقع في الغرب من الجهرة...»، ويضيف «فبنو تميم وهم قوم الفرزدق يقطنون المنطقة التي تحدها من الشمال كاظمة، ومن الجنوب انطاع، ومن الغرب الدو (الديدة)، ومن الشرق العدان، وكانت مجاشع، وهي فخذ من تميم، وعلى الأخص بنو دارم، وهم قوم الفرزدق، يقطنون المنطقة الواقعة بين كاظمة والبرقان، وكان الفرزدق بالذات يسكن كاظمة وما جاورها، ومن يدري لعله نزل في يوم من الأيام على أحد المياه الواقعة في منطقة مدينة الكويت بالذات كأبي دواره أو الدمنة أو الرأس، وأنا أعتقد أن هذه المياه لم تكن مجهولة لدى العرب القدماء، وربما عرفوا منها أكثر مما نعرفه نحن اليوم، وقد غزت شيبان، وهي من أشهر القبائل العربية، بني تميم عى ماء كاظمة تريد الاستيلاء عليه فهزمهم بنو تميم، وصدوهم عنه، وفي هذه يقول الفرزدق مفتخراً:
لقد رجعت شيبان وهي أذلة
خزايا ففاضت في الوثائق وفي الأزل
وكان لها ماء الكواظم غرة
وحرب تميم ذات خبل من الخبل
فما رحتم حتى لقيتم حمامكم
وآب مولوكم فراراً من القتل.
ولعله أجمل ما كتبه الرومي في ختام مقاله. وبعد فإن يعتز القارئ الكويتي بمواطنه الفحل -الفرزدق- فسيرى في بحوث قادمة أن موطنه كان له شأن كبير في التاريخ، وعلى أرضه تجلت صحائف كثيرة مهمة، فيها الممتع من الحوادث والغريب من الوقائع التاريخية المعروفة، لم تذكر فيها الكويت لحداثتها، وهكذا يتجلى لنا عمق الجذور الثقافية لأرض الكويت عبر شخصية الفرزدق، فما كان لهذه البقعة أن تكون مجرد نقطة عابرة في التاريخ، بل كانت حاضنة للإبداع ومنبعاً للشعر العربي الأصيل، فلنحتفِ بهذا الإرث ولنستلهم منه في حاضرنا، فالأمم العظيمة هي التي تحافظ على ماضيها وتستشرف مستقبلها في آن واحد، ولمكتبة الأديب حمد بشر الرومي قصة سنتكلم عنها في المقال القادم بإذن الله... وتسلمون.
جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء الثامن عشر من مارس 2025 (الرابط الإلكتروني).
الفرزدق الكويتي - PDF