زمن الاقتصاد الإبداعي

essay image

حين كنت أستعرض ذكرياتي في مقالي السابق عن الأخطل الصغير، لم أكن أستحضر فقط شاعراً كبيراً من الزمن الجميل، إنما كنت أسترجع صورة الوالد – رحمه الله – الداعم الصامت للفن والأدب، والمؤمن بأن للكلمة وقعاً يساوي الذهب، وللصوت الجميل أثراً لا يُنسى، وعلى الرغم من تغيّر أدوات التعبير، فإن جوهر الإبداع ما زال راسخاً إلى يومنا هذا، فما زالت الفكرة، والنغمة، واللوحة، والكلمة، تمتلك القدرة على خلق القيمة، وتحريك عجلة الاقتصاد، لذا ارتأيت في هذا المقال أن أمد جسراً بين ذلك الماضي الجميل، وبين الحاضر الذي يتطلع إلى تحويل هذا الإبداع إلى اقتصادٍ مستدام، فما كان بالأمس مبادرةً فردية من رجلٍ، يؤمن بأن دعم الإبداع ليس ترفاً، بل هو استثمارٌ في القيم والهوية والمستقبل، أصبح اليوم توجهاً وطنياً ورؤيةً استراتيجية ومنهجاً تنموياً، يتبناه العالم تحت مسمى «الاقتصاد الإبداعي»، ففي ظل عالمٍ تتبدل فيه معادلات الثروة، أصبحت الأفكار الخلاقة والمهارات البشرية هي الوقود الجديد للازدهار، وهنا يبرز مفهوم «الاقتصاد الإبداعي» كمنظومة تحوّل الإبداع إلى قيمة اقتصادية، عبر مجالات مختلفة، كالفنون والإعلام والتراث والرقمنة، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن هذا النمط من الاقتصاد ليس فقط أداة للترفيه أو الثقافة، إنما هو محرّكٌ حقيقي للنمو، قادر على خلق فرص عمل، ويعزز الهوية الوطنية، ويساهم في الناتج المحلي الإجمالي، ففي زمننا هذا، زمن العولمة والتحول الرقمي، أصبح للاقتصاد الإبداعي قدرة هائلة على تجاوز الحدود، وإحداث تأثيرٍ ثقافيٍّ واقتصاديٍّ في آنٍ واحد، ولله الحمد فعلى صعيد وطننا الحبيب الكويت، بدأ هذا المفهوم يأخذ حيزاً من الاهتمام الرسمي، ففي مقالٍ نُشر مؤخراً في جريدة القبس، صرّح الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الدكتور محمد الجسار، «أن قانون الاستثمار الثقافي الذي يعمل عليه المجلس، يهدف إلى تحويل الثقافة من عبءٍ على الموازنة، إلى مصدر دخل وفرص، وهذا التوجه يُمثل خطوة استراتيجية نحو بناء اقتصادٍ إبداعي متكامل، يجمع بين عراقة التراث والتطور التكنولوجي»، وهذا الكلام يوجب الوقوف عنده، فالفكرة، وحسب فهمي للمشروع، أن يتم دعم الفنون والآداب من خلال تشريعات، تسمح بعمل صناديق لدعم وتمويل هذا القطاع، وتُموّل من القطاع الخاص، ومن الوعاء الضريبي، إن تم تعديله، وهذا الأمر ليس بجديد، فهو مطبق في العالم، وهنا ما أردت أن أربطه ما بين عمل الوالد - رحمه الله - بدعم الفنون والآداب من ماله الخاص، وما يهدف إليه المجلس الوطني بفتح باب المساهمة، من خلال تلك الصناديق والتشريعات المؤمل إقرارها، وفي السياق نفسه، فقد سعدتُ مؤخراً بلقاء ومرافقة السيدة جوانا كوزمين كارافاييف، الزائرة من بلجيكا، المُهتمة والخبيرة بتطوير الفضاءات الثقافية، والمستشارة للمجلس الوطني للفنون والثقافة والآداب، في جولة إلى مسجد العثمان ومتحف بيت العثمان، فمن خلال هذه الزيارة، تناقشنا حول إمكانية تحويل المعالم التراثية إلى منصاتٍ اقتصاديةٍ وثقافيةٍ نابضة، من خلال الفعاليات والمنتجات والحرف اليدوية والمعارض الفنية، فقد كانت السيدة جوانا ترى في هذه المعالم ما هو أكثر من مجرد رموزٍ تراثية، بل وجدت فيها الأدوات الحيّة لصناعة مستقبل إبداعي قائم على الهوية الكويتية، وتتكامل هذه الجهود الواعدة مع العمل المؤسسي، الذي يقوده الأمين العام الدكتور محمد الجسار، والمهندس جابر القلاف مدير برنامج الاقتصاد الإبداعي في المجلس الوطني، وذلك بعملهم على وضع السياسات، التي تُمكّن الشباب الكويتي من تحويل مواهبهم إلى مشاريع اقتصادية، وعلى ربط القطاعات الثقافية بالمؤسسات الحكومية والخاصة، لتكوين بيئة محفزة للإبداع، وإننا سعداء بأن يكون لنا دور في هذا المحور، من خلال اتفاقية التعاون ما بين ثلث العثمان والمجلس الوطني، والمشاركة مع لجنة الرؤية، التي تُعنى بوضع تصور وخطة لتطوير متحف بيت العثمان، ليكون متحفاً تراثياً ومركزاً ثقافياً ومرجعاً حضارياً، يُعزز الهوية الكويتيةـ من خلال ما يقدمه من برامج ومن بيئة ملهمة للإبداع، فالاقتصاد الإبداعي عزيزي القارئ ليس ترفاً ثقافياً، بل هو خيارٌ تنموي ذكي، والكويت تملك مقومات نادرة، كالهوية الثقافية الغنية، والطاقات الشابة، والبنية التحتية الرقمية لدينا في تطورٍ مستمر، فما نحتاج إليه اليوم هو الرؤية والتمكين والتشريع فقط، فالأفكار موجودة، وتنتظر فقط من يؤمن بها.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر السابع والعشرون من مايو 2025 (الرابط الإلكتروني).

زمن الاقتصاد الإبداعي - PDF