الاقتصاد الإبداعي.. مرة أخرى

essay image

انقلبت موازين الثروة في عالمنا المعاصر، وأضحى الإبداع البشري المورد المتجدد الذي يُعيد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي، وتحولت معه الفكرة من مجرد ومضةٍ عابرة إلى أصلٍ اقتصادي قابل للقياس والاستثمار، والمهارة الإبداعية من هواية شخصية إلى محرك ينتج المليارات، وأًضحت الثقافة، التي كانت حبيسة المتاحف وقاعات العرض، سلعة عالمية تُصدَّر وتُتداول وتُستثمر، ولم يأتِ هذا التحول من الفراغ، فقد أدركت الحكومات حول العالم الإمكانات الهائلة التي يوفرها الاقتصاد الإبداعي أو بتعبيرٍ آخر «قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية» في دفع عجلة النمو الاقتصادي. وكنتُ قد تطرقت في مقالي السابق للحديث عن الجسر الممتد من زمن الأخطل الصغير ومن زمن الكلمة إلى زمن الاقتصاد الابداعي، وكيف تحولت المبادرات الفردية الداعمة للكلمة إلى توجهات وطنية واستراتيجيات تنموية، لذا ارتأيت اليوم، وفي هذا المقال «وبتصرف»، أن أواصل استكشاف هذا العالم الخصب، لأسلط الضوء على آفاقٍ أرحب وإمكاناتٍ أوسع لهذا الاقتصاد في الكويت ودول الخليج العربي، حيث تبرز في منطقتنا العربية تجارب طموحة تستحق التأمل والتحليل للاستفادة منها، ففي المملكة العربية السعودية مثلاً، شكلت رؤية 2030 منعطفاً حاسماً في التعامل مع الاقتصاد الإبداعي، حيث تحولت النظرة للثقافة والفنون من مجرد أنشطة ترفيهية إلى قطاعات قادرة على تنويع مصادر الدخل الوطني وخلق آلاف الوظائف للشباب السعودي، وقد تجلى ذلك من خلال مبادرات متنوعة، كشركة سافي للاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية، التي تهدف إلى تطوير قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية، من خلال العمل على إنشاء 250 شركة للألعاب الإلكترونية في المملكة العربية السعودية، مما سيوفر 39 ألف وظيفة، الأمر الذي يرفع من مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي، وما يعزز من مكانة المملكة بوصفها مركزاً إقليمياً للإنتاج والتقنيات الإبداعية، وعلى ضفةٍ أُخرى تواصل دولة الإمارات العربية الشقيقة ريادتها في هذا المجال، إذ تُعد المنطقة الإبداعية في جزيرة ياس في أبو ظبي نموذجاً ملهماً لهذا التوجه، حيث تحولت إلى مركز إقليمي لصناعة المحتوى الإعلامي، بالإضافة إلى مبادرات دعم إنتاج الأفلام العالمية، ومشروع «تيم لاب فينومينا»، الذي يُعد معلماً ثقافياً رائداً يُعيد تعريف التجارب الفنية الاستثنائية على مستوى العالم، بحيث يُجسد رؤية تتجاوز حدود الإبداع والتكنولوجيا والإدراك البشري، من خلال تقديم أعمال فنية ضخمة وتحويلية تمزج بين الفن والعلم والتكنولوجيا بأساليب مبتكرة وغير مسبوقة، كما سبقت الإمارات العربية المتحدة الجميع بتأسيس «هيئة دبي للثقافة والفنون»، التي تعمل على إثراء المشهد الثقافي في إمارة دبي من خلال تعزيز مكانتها كمركز عالمي للثقافة، وحاضنة للإبداع وملتقى للمواهب، كما احتضنت معرض «إكسبو 2020» الذي أبرز الاقتصاد الإبداعي كمحرك اقتصادي عابر للحدود، وفي دولة قطر أيضاً جاء الاستثمار على صعيد المتاحف، وفي شبكات دعم الإبداع، مثل مؤسسة قطر، لتربط بين التعليم والثقافة والاقتصاد، وتُعزز مكانتها كمركز إقليمي للإنتاج الثقافي، من خلال ما تطلقه من مبادرات تتعلق بالتعليم والبحوث والابتكار وتنمية المجتمع، وفي دولة البحرين أيضاً تم تأسيس «هيئة البحرين للثقافة والآثار»، مع الاهتمام الخاص بالصناعات الحرفية والتراثية وربطتها بأسواق رقمية، لتعزيز حضورها الثقافي والاقتصادي، وفي بلدنا الكويت الحبيب، كما أشرنا في المقال السابق، بدأت تظهر خطوات واعدة في هذا المجال، من خلال المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، واستراتيجية الاستثمار الثقافي، والتفاعل المتزايد مع المواهب الوطنية لتحويل التراث إلى محتوى اقتصادي نابض، وقد أُضيف إليها بُشرى مهمة، أخيراً، بإعلان مجلس الحرف العالمي اعتماده الرسمي لتسمية مدينة الكويت «مدينة عالمية لحرفة نسيج السدو» تقديراً لمساهماتها المتميزة في حفظ وتعزيز هذه الحرفة التقليدية، الأمر الذي من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة لتعزيز السياحة الثقافية ويدعم الحرفيين للوصول إلى الأسواق العالمية، جُل هذه الأمور تؤكد لنا أن الاقتصاد الإبداعي ليس ترفاً فكرياً أو مجرد شعار يُرفع، بل ضرورة تنموية وخيار استراتيجي مهم، والدولة التي ستنجح في المستقبل، هي الدولة التي تستثمر اليوم في عقول أبنائها وطاقاتهم الإبداعية، لتصنع اقتصاداً مستداماً محوره الإنسان وإبداعاته اللامتناهية.

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر الثالث من يونيو 2025 (الرابط الإلكتروني).

الاقتصاد الإبداعي.. مرة أخرى - PDF