طبول الحروب

وبعد أن وضعت الحرب الإسرائيلية الإيرانية أوزارها بإعلان الرئيس ترامب في تغريدة له يبشر العالم بانتهاء الحرب، أخذتني الذاكرة إلى سنوات مضت، وحاولت أن أتذكر كم حرباً أو تهديداً بالحرب مرّ علينا، والتي لها علاقة مباشرة بوطننا، وكيف كنا نتابع تلك الحروب وقارعي طبولها، ومع صغر السن الذي لم يتجاوز الأربع سنوات، إلا أن حركة وتوتر المنزل ورؤية سلاح والدي -رحمه الله- في المنزل لأول مرة، ومتابعة الأسرة للأخبار من خلال المذياع الذي كان الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري، سواء من إذاعة الكويت أو صوت العرب من القاهرة، كل ذلك ترك أثراً عميقاً في الذاكرة، وكانت تهديدات عبدالكريم قاسم وحشد جيوشه على الكويت، وبفضل من الله والتصرف الحكيم للقيادة السياسية في ذلك الوقت، وقدوم القوات البريطانية ومن بعدها القوات العربية بسرعة فائقة، عدا عن التحرك السياسي، مما كبح جماح دكتاتور العراق، ولكننا عشنا أجواء حرب وجودية تركت الأثر الكبير في الذاكرة والوجدان، وبعدها بسنوات قليلة، دخلت المنطقة في حرب ١٩٦٧، حرب خاطفة خادعة من قِبل إسرائيل، خسرت فيها الدول العربية سيناء والجولان والضفة الغربية في ستة أيام، وما حد فهم شلون، وطبعاً كما ذكرت، كان مصدر المعلومات الأول هو المذياع، وصوت العرب يعطيك صورة ثلاثية الأبعاد ويعيشك في أجواء الحرب كما نراها على القنوات الفضائية الآن، ولكن في ذلك التاريخ، المعلومات التي تُبث ما لها أي علاقة بالواقع، وأتذكر زين الكل وراء المذياع متحمس لوصول دبابات العرب إلى تل أبيب وتدمير الجيش الإسرائيلي، والكل يصفق فرحان، وبعد ساعات قليلة اتضح العكس، يعني كانت صدمة ما مثلها صدمة، وما حد فهم شلون؟ وليش؟ ولكن هذه الحرب ما زالت تداعياتها قائمة إلى اليوم، وخلصنا من ٦٧ لندخل في حرب الاستنزاف كما أطلق عليها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، واستمرت لسنوات من الهجمات المتبادلة وإطلاق النار شبه اليومي إلى حرب ٧٣، وما زلت أحتفظ في مكتبتي بالصحف الصادرة في ذلك التاريخ، وبعد النصر المبين شفنا ثغرة الدفرسوار التي استطاع من خلالها الجيش الإسرائيلي عبور القناة، المهم أن المفاجأة كانت من الرئيس الراحل أنور السادات، الذي كان رئيساً شجاعاً ومناوراً وذكياً وواقعياً في ذات الوقت، عارف شنو الممكن وشنو الخيال، وكان هدفه من الحرب هو عقد سلام يستطيع من خلاله استرجاع سيناء، وبعد كم سنه تفاجأنا بزيارته إلى القدس، والتي أخذت فترة من الوقت لاستيعاب ما يحدث المهم أن الرئيس السادات قدم بل خطف خطة سلام استطاع استرجاع كامل سيناء، وتزامن مع حرب الاستنزاف حرب أيلول الأسود كما أُطلق عليها، حرب شوارع مدمرة ما بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، انتهت بخروج كل المقاتلين الفلسطينيين من الأردن، وبعدها اشتعلت الحرب اللبنانية واستمرت لما يزيد على عقدين من الزمن، وللحين ما خلصوا منها، فمن حين لآخر تتعرض لبنان لهزة، وطبعاً اشتعلت الحرب الإيرانية العراقية الطاحنة، وما خلصت إلا ودخل علينا صدام وجيوشه غدراً وعدواناً، وصرنا في عين العاصفة، وعاصرنا أحلك وأصعب الأيام في حياتنا، وعاد الوطن بفضل ورحمة من الله سبحانه وتعالى، وما مدانا نرتاح إلا وبدأت حرب أمريكا مع العراق، واحتُلّ العراق وسقط صدام، بس هَمْ طلع لنا بما سُمي بالربيع العربي، واشتعلت ليبيا واشتعلت سوريا واشتعلت اليمن، وبدأت حرب اليمن التي إلى اليوم ما خلصت، يعني مآسٍ وحروب ما لها أول من آخر، والآن دخلنا في جولة جديدة بحرب من طراز آخر بين إيران وإسرائيل، ودخلت أميركا على الخط وأنهت برنامج إيران النووي، المهم أن الحرب انتهت، ولكن حرب غزة ما زالت مستعرة، والله لقد عجزت وأنا أحاول أن أجمع كل الحروب اللي مرت عليّ منذ الطفولة، وفي النهاية أقول أنه بين طبول الحروب المتعاقبة وصراخ البنادق الممتد لعقود، بقيت ذاكرة أبناء الخليج مثقلة بالتجارب، لكنها متماسكة بالإرادة والإيمان، ولولا رحمه من الله وحكمة القيادة ووحدة الشعوب والتفاتهم حول قيادتهم، لكانت الرمال قد ابتلعتنا كما ابتلعت غيرنا، فالتاريخ لا يرحم، لكنه يعلّم، واليوم، بعد كل تلك العواصف، بات علينا أن نقرأ الماضي جيدا لا لنندب حظنا، بل لنفهم كيف نحمي أوطاننا، ونصون استقرارنا، ونختار مستقبلًا لا تصنعه الحروب، بل تصنعه العقول والسلام. وتسلمون.
جريدة القبس في عددها الصادر الأول من يوليو 2025 (الرابط الإلكتروني).
طبول الحروب - PDF




