نظرية القطط

essay image

أبارك لابن أخي الكاتب المتميّز، عبدالله العثمان، صدور كتابه الجديد، الذي يحمل عنواناً جذاباً ومميزاً أسماه «نظرية القطط، فن التعايش مع مشاكل الآخرين»، (وبتصرف عن ما كتب أنقل)، فمن منا لا تطارده المشاكل يومياً، سواء في عمله أو في علاقاته مع الآخرين؟ ولا أَبلغ في الحديث عن هذه الإشكالية من المقدمة، التي بدأ بها عبدالله كتابه حين قال: «في عالمٍ يعج بالمشكلات، ومع تسارع الحياة وضغوط العلاقات، صرنا نتلقى يومياً سيلاً من الفضفضات والشكوى، حتى أصبح من الصعب التمييز، هل هذه مشكلتي أم مشكلة غيري؟ وهل تعاطفي معها يجعلني مسؤولاً عنها؟».

هكذا بدأ عبدالله رحلته، ليضع أمامنا محاولة جادة وعميقة لفهم الحدود النفسية، وكيف علينا أن نستمع إلى مشاكل وهموم الآخرين من دون أن نغرق في أعماقها، وكيف نعيش بتعاطف حقيقي من دون أن نتحول إلى ضحايا لعواطف الآخرين، وعلى غرار نظرية القرود الإدارية الشهيرة، بنى عبدالله فكرته النفسية العميقة، التي تحولت إلى كتيب ودليل عملي للحياة اليومية، ولمن لا يعرف نظرية القرود، سألخصها ببضعة أسطر، فهي تُعد من أكثر المفاهيم الإدارية طرافة وواقعية، وكانت قد طُرحت للمرة الأولى على يد ويليام أونكن، وطورها لاحقاً كين بلانشارد، لتصبح أداة تحليلية، لكل من يريد أن يدير وقته من دون أن يتحول إلى رجل إطفاء دائم لمشاكل الآخرين، ووفقاً لهذه النظرية، فإن كل مشكلة أو مهمة غير منجزة تمثّل «قرداً صغيراً»، وعندما يأتي الموظف إلى مديره، ويعرض عليه المشكلة من دون مقترح للحل، فهو بذلك يسلّم له هذا القرد، لتتكاثر القرود على كاهل المدير من دون أن يشعر، الأمر الذي يجعله يفقد القدرة والسيطرة عليها، ولا بُدَّ من الإشارة هنا إلى الدراسة، التي نشرتها Harvard Business Review، والتي بينت أن %35 من وقت المديرين يُهدر في مهام كان يُمكن تفويضها، والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الحدود الإدارية، والنتيجة تتمثّل بالإرهاق المستمر وفريق عمل غير ناضج لا يعتمد على نفسه.

من هذا المنطلق الإداري أوضح أنه، وكما تتسلل المهام والمشاكل إلى المدير على هيئة قرود، فإن المشاعر والمآسي اليومية، التي يشاركها الآخرون معنا، تدخل حياتنا على هيئة «قطط صغيرة»، تتودد وتتمسح وتستقر في أحضاننا، على عكس القرد، الذي يمثل عبئاً إدارياً واضحاً، فإن القطة أكثر نعومة وأكثر مكراً وخطورة، لأنها لا تباغتك أو تقتحم عليك مساحتك، إنما تمشي بخفة ولطف، ويشرح الكاتب كيف أنه في البداية لا تشعر بثقل هذه القطة العاطفية، بل تبدو وديعة وتستحق العطف والرعاية، ولكن مع الوقت تبدأ بالتمدد في مساحتك النفسية، وتأخذ مكانها في وجدانك، لتجد نفسك تشعر بأن المشكلة لم تعد مشكلة صاحبها وحده، إنما أصبحت مشكلتك أنت أيضاً، تفكّر بها ليلاً ونهاراً، وتحمل عبئها وكأنك المسؤول الأول عن حلها، هنا يبدأ عبدالله في كشف جوهر نظرية القطط، منطلقاً من فكرة أساسية يؤكد عليها: أننا لسنا مسؤولين عن معالجة كل ما نسمعه أو يُقال لنا، فالكثير من الفضفضات والشكاوى ليست سوى رغبة في التنفيس العاطفي، والحصول على جرعة من المواساة، وليست دعوة لإيجاد حل، وهنا يُحدد الكاتب الخطأ، الذي نقع فيه جميعاً: ان تعاطفنا الصادق مع مشاكل الآخرين يجب ألا يتحول إلى احتضان مُطلق للمشكلة، والإنصات الإيجابي لا يعني بالضرورة التورط العاطفي، والحب والاهتمام لا يعني أن نتحول إلى إسفنجة نفسية تمتص كل ما يُقال لها حتى تتشبع بالتعب، والسؤال المحوري، الذي طرحه الكاتب هنا: كيف نوازن بين أن نكون آذاناً صاغية وقلوباً رحيمة، وبين أن نحافظ على أنفسنا من الغرق في هموم غيرنا؟ ليُقدم لنا عبدالله الإجابة الشافية من خلال مفهوم «الحزم العاطفي»، وهو منهج متوازن لا يعتمد على القسوة أو اللامبالاة أو التجاهل المؤذي، إنما على مجموعة من الأدوات الذكية والعملية، التي شرحها في كتيبه، وأذكر منها: فن الاستماع المحدود، واستخدام التعاطف الواعي، والتوقف عن حل المشاكل غير المطلوبة، وتحديد المساحة النفسية. وفي النهاية وكما أنهى عبدالله نظريته بحكمة بالغة أقول إن: «القطط موجودة في كل مكان، والعلاقات الناجحة لا تُبنى على الحب والتفاهم، بل أيضاً على المساحات الشخصية والتوازن العاطفي، والقدرة على الاعتذار، عندما لا تكون متاحاً».

وتسلمون.

جريدة القبس في عددها الصادر الثلاثاء السادس عشر من سبتمبر 2025 (الرابط الإلكتروني).

نظرية القطط - PDF