نجاح المعلم في إدارة اللحظات الأولى من دخوله إلى الفصل هي ما تقيس قدرته على إرساء النظام والانضباط ضمن الطلبة وبناءعليه قدرته على خلق بيئة مناسبة للتعلم. ومن أساسيات إدارة الفصل التأكد منذ بداية الحصة المقررة من عدد الطلاب المتواجدين داخل الفصلوذلك عن طريق مناداة الأسماء المدونة في كشف الغياب.
ووفقاً للوائح تقييم المعلم المعمول به حالياً في وزارة التربية فإن المعلم يحاسب في حال إهماله إحضار كشف الغياب الخاص بالفصل إذ يعد إهماله هذا تشجيعاً للطلبة على التسيب والتأخر في الحضور إلى الفصل إن لم يتجاوز حد الغياب الكامل سواء برغبة الطالب أو لضررٍ أصابه دون أن يعلم أحد بغيابه .
وقد وجدنا من خلال تصفحنا لدفتر التحضير للمعلم عبد العزيز أن هذا النظام هو ما كان معمولاً به في مدرسة العثمان.
فكما يتبين لنا من الصورة المقابلة , حرص المعلم عبد العزيز على وجود كشف بأسماء الطلبة في حوزته مدوناً فيه اسم الطالب ورقمه التسلسلي. ليس هذا فحسب , بل نجد إلى جانب بعض الأسماء عذر الغياب سواء كان دائماً أو مؤقتاً ملخصة في أربع أسباب (انتقل–خرج–غوص–مات).
إذاً الآن بداية الحصة و سينادي المعلم أسماء طلاب الصف الأول ليعلم الحاضر منهم والغائب. انتهى المعلم من قراءة كشف الأسماء وهناك ثمانية طلاب لم يعلن حضورهم إلى الفصل.
إذاً إما هم غائبون عن حضور اليوم الدراسي بأكمله أو متأخرون عن حضور الحصة. دقائق تمر وها هم الطلبة الثمانية يهمون بالدخول إلى الفصل بعد طلب الإذن من معلمهم. يسمح لهم المعلم بالدخول لكن ليس قبل أن يطبق إحدى أهم قواعده في إدارة الفصل وهو مخالفة الطلبة المتأخرين.
فقد دون المعلم عبد العزيز في بداية الدفتر أسماء المتأخرين حرصاً منه على إرساء النظام وإعلام الطلبة المتأخرين منهم والمتواجدين داخل الفصل أن التأخر عن حضور الحصة لن يمر دون إنذار.
وتعد كتابة الأسماء هي إحدى أفضل الوسائل التي تمكن المعلم من إيصال تلك الرسالة إذ بمجرد أن يرى الطالب المعلم وهو يدون إسمه لمخالفةٍ ارتكبها حينها فقط تترسخ إمكانية العقاب في ذهنه في حال تكراره المخالفة.
وبناءً على المراجع الواقعة بين أيدينا وصيت المعلم عبدالعزيز العثمان وسمعته بين أفراد عائلته وطلبته وزملائه فهو لم يكن يوماً ممن انتهجوا الضرب أو الإساءة اللفظية وسيلةً لعقاب الطالب أياً كانت مخالفته أو خطؤه, بل كان رحمه الله ممن انتجهوا مبدأ الإصلاح بالقول الحسن والتأديب بإرساء نموذج القدوة الحسنة.
بعد أن دوَّن المعلم عبد العزيز أسماء الطلبة المتأخرين عن حضور الفصل ليوم السبت سينتقل الآن إلى الدرس الأول لليوم وهو الفقه. وعليه يتبين لنا أنه عندما يتم المعلم الإجراءات الأولية لإدارة الفصل ويسيطر على مختلف عناصره , حينها فقط عليه أن يبدأ بشرح الدرس في بيئة تعليمية مناسبة لكلا الطالب المتلقي والمعلم الفاعل. لكن قبل أن ننتقل إلى صلب العملية التعليمية لا بد لنا من أن نتأمل إحدى المحاور الأساسية التي صبغت العملية التعليمية في ذلك الوقت ألا وهو نموذج " المعلم الشامل ".
في ذلك الوقت لم تكن المناهج الدراسية مبنية على ذات التعمق في التخصص العلمي كما هو عليه الحال في عصرنا الحالي, بل قامت على تعليم المبادئ الأساسية في مجالات العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية من جهة والتعمق في مجالات الفقه واللغة العربية بكافة تشعباتها من قراءة ومطالعة وخط وإملاء من جهة أخرى.
ولـم تقتصر هـذه السمة على العملية التربوية في الكويت قديماً بل هي سمة عالمية صاغت صـورة التعليم فـي مختلف أنحاء العالم حيث وقع التركيز دوماً على تعليم أفراد المجتمع لغته الأم ودينه وترسيخ منظومة معتقداته إلى جانب تعليمه المبادئ الأساسية العلمية التي تمكن أفراد هذا المجتمع من القيام بواجباته ووظائفه على أكمل وجه.
وهنا يأتي مفهوم " المعلم الشامل "
حيث اعتاد المعلم أن يتولى تدريس الفصل المناط به جميع المواد الدراسية المطلوبة وقد كان المعلم حينذاك مؤهلاً لتحمل أعباء تلك المسؤولية على أكمل وجه. ويتبين لنا من صورة جدول الحصص الخاص بالمعلم عبد العزيز تنوع المواد الدراسية التي تولى تدريسها من لغة عربية وفقه وحساب وعلوم وحتى الألعاب مقسمة إلى خمسة دروس( حصص دراسية ) على مدى أيام الأسبوع ما عدا الجمعة.
وعليـه يتبين لنا أن هناك محورين ميـزا صورة المعلم الشامل في تلك الحقبة التربوية ألا وهما الدور التربوي والـدور المعرفي. نبدأ مع الدور التربوي الذي يلعبه المعلم وفقاً لرؤية مجتمعه. فها هـو المعلم عبـد العزيز يبدأ نهاره مع فصله وينهيه مع ذات الفصل. وجود المعلم مع ذات مجموعة الطلاب لا بد له أن يبني رابطاً قوياً بين المعلم وطلابه , رابطاً أسرياً يتجسد فيه المعلم صورة الأب والقائد دون أن نغفل حقيقة أنه يتوقف على شخص المعلم ذاته نجاحه أو فشله في إرساء القدوة الحسنة المتمثلة في صورة الأب الصالح والقائد الناجح. فهذا الارتباط بين المعلم وطلابه من شأنه أن يسند الدور التربوي المناط بالمعلم الذي أصبح يعرف طلابه بشكل مقرب ومكثف بحيث تبينت له خصائص كل طالب على المستوى العلمـي والأخلاقي والسلوكي وعليه تتوقف كيفية تعامله مع كل طالب على حدى كما يتعامل الأب مع أبنائه بذات روح المحبة على اختلافهم.
وقد حرص الأهل والمجتمع على أن يعي أبناؤهم أهمية احترام المعلم والاقتداء به والأخذ بنصحه وإرشاده. فاعتاد الطالب في تلك المرحلة أن يرى في المعلم أكثر من مجرد أستاذ مادة ينتهي دوره بمجرد سماع الجرس حيث يلملم أغراضه من على الطاولة ويهرع مسرعاً خارج الفصل , بل هو أكثر من ذلك بكثير , هو ركن من أركان حياته الراسخة التي يقف عليها بثبات متطلعاً إلى السماء , هو الأب هو القائد هو الأخ الأكبر.
إذا ما وضعنا الدور التربوي جانباً يتبين لنا أن الحمل الوظيفي الذي اعتاد المعلم أن يؤديه يفوق بكثير الحمل الذي يتحمله المعلم في الوقت الحاضر. فبينما يتوقف على المعلم في وقتنا الحاضر مسؤولية إعداد التحضير الخاص بمادته فقط نجد أن المعلم الشامل وقعت عليه مسؤولية إعداد التحضير الخاص بمختلف المواد التي يتولى تدريسها في الفصل. فها هو دفتر التحضير الخاص بالمعلم عبدالعزيز يشتمل على تحضير الفقه واللغة العربية واللغة الإنجليزية والتاريخ بكافة بنودها المطلوبة وفق معايير ذاك الزمن ولو توفرت لدينا دفاتر التحضير الأخرى الخاصة به لوجدنا بكل تأكيد التحضير الخاص بمادتي العلوم والحساب.
وسيتبين لنا لاحقاً مدى استيفاء المعلم عبد العزيز لبنود التحضير الأساسية المطلوبة في كل مادة لضمان نجاح المعلم في تحقيق أهدافه داخل الفصل والقيام بمسؤوليته في الشرح على أكمل وجه ممكن. أيضاً من شأن هذا الشمول و التنوع في مجالات العلم أن يضفي على المعلم هيبة العالم المتنور التي تتجاوز الصورة النمطية المحدودة للمدرس الذي لا يفقه إلا في مجال مادته وبقدر المطلوب منه ضمن المنهج. وتعد تلك الصورة النمطية المحدودة من أهم العقبات التي تواجهها الجهات الرسمية في وقتنا الحاضر فيما يتعلق بتطوير العملية التربوية من خلال تنمية قدرات المعلم ومؤهلاته بداية من التركيز على استخدام مصطلح المعلم بدلا من المدرس وذلك لشمولية مصطلح المعلم وارتباطه بالتنور المعرفي.
فعلى سبيل المثال نجد الآن أن بند الإنماء المهني يعد من البنود الأساسية في تقييم المعلم السنوي سواء من خلال إعداد وإدارة الاجتماعات الفنية أو من خلال إقامة الورش والدورات على تنوعها المعرفي والمشاركة فيها. أيضاً يشار إلى اتجاه وزارة التربية في دولة الكويت إلى منح رخص للمعلمين تجدد دوريا كل خمس سنوات بشرط اجتياز المعلم لمجموعة اختبارات يقاس فيها مدى تطور مهاراته الوظيفية التربوية والتعليمية والمعرفية. هذا كله يهدف في جوهره إلى إعادة المعلم إلى الدور الذي خلق له ألا وهو المربي والعالم, هذا الدور الذي اعتاد أن يضع فيه المجتمع المعلم ضمن مصاف الوجهاء والناصحين.
بعد أن ألقينا الضوء على ماهية المعلم الشامل نعود إلى المعلم عبدالعزيز الذي ابتدأ الدرس الأول في الفقه وهو أحكام الطهارة.
ولا يفوتنا الحديث و نحن في معرض البحث في دفتر التحضير إلقاء الضوء على الأهمية القصوى التي أولاها المجتمع الكويتي لتعليم أبنائهم أسس الفقه والأحكام الشرعية فيما يتعلق بمختلف مجالات الحياة ودفتر التحضير الذي بين أيدينا خير شاهد.
ولا يفوتنا الحديث و نحن في معرض البحث في دفتر التحضير إلقاء الضوء على الأهمية القصوى التي أولاها المجتمع الكويتي لتعليم أبنائهم أسس الفقه والأحكام الشرعية فيما يتعلق بمختلف مجالات الحياة ودفتر التحضير الذي بين أيدينا خير شاهد.
فبالإضافة إلى درس أحكام الطهارة هناك دروس أخرى أعدها المعلم عبد العزيز في دفتره منها الأحكام المتصلة بالعقيدة وأداء العبادات كأحكام الصلاة والزكاة , والأحكام المتصلة بالحياة اليومية والمعيشية كأحكام البيع والشراء والكفالة والدين.
ويعود هذا الاهتمام والحرص على التعليم الشرعي إلى إيمان المجتمع بضرورة أن يكون الإسلام نبراساً لكل العلوم الدينية والدنيوية التي سيحظى بها أبناؤهم. وهذا الإيمان ليس بغريب على المجتمع الكويتي فهو إيمان متجذر في الحضارة الإسلامية حيث شكل العلم الشرعي الأساس والجوهر الذي اعتماداً عليه حلق العلماء المسلمون في فضاءات الإبداع في العلوم والمعرفة.
نعـود إلى درس الفقه والدرس في جوهره هو عبارة عن منظومة معرفية تتجزأ إلى مفاهيم رئيسية تتفرع كل منها إلى مفاهيم وأفكار جزئية. وبناءً عليه دائماً ما يبتدئ المعلم الدرس بالتعريف بالمفهوم الرئيسي الذي تندرج تحته جميع المفاهيم الخاصـة بهذه المنظومة.
وإن أردنا تطبيق هذا المفهوم للدرس على دفتر التحضير الذي بين أيدينا نجد أن التحضير الذي أعده المعلم عبد العزيز ينطلق من ذات الرؤية.
في البداية نجد في أعلى الصفحة الأولى من التحضير عنوان الدرس وهو " الطهارة " يليه في السطر التالي التعريف بالمفهوم الرئيسي
على الشكل التالي : " ما هي الطهارة " .
يليه الجواب: " هو رفع الحدث وزوال الخبث ".
إذاً هذا هو المفهوم الرئيسي لدرس اليوم والذي يشكل المقدمة لتناول أحكام الطهارة في الشريعة الإسلامية.
ولكن قبل أن ينتقل المعلم عبدالعزيز إلى تناول أحكام الطهارة ارتأى أن يتناول في البداية أقسام المياه الثلاثة وذلك لأهمية معرفة الطالب أي نوع من أنواع المياه يجوز له التطهر به.
فنجد أن المعلم ابتدأ كل قسم من أقسام المياه بالتعريف به ثم حكم التطهر به بشكل واضح ومباشر لاتسويف فيه ولا إطالة.
لينتقل بعدها المعلم عبد العزيز إلى تناول أحكام الطهارة على اختلاف حالاتها فيبدأ بعنوان فرعي يحمل اسم الحكم بين قوسين يليه شرح مبسط وأساسي لما يستوجبه هذا الحكم.
وتمتد بنود الدرس إلى فروض الوضوء وشروطه ونواقضه.
ثم ينتقل إلى فروض الغسل وموجباته ونواقضه وسننه حتى ختم الدرس بفروض التيمم وشروطه ومبطلاته.
يلاحظ من التقسيم الذي اتبعه المعلم على النحو الذي نراه على امتداد صفحات التحضير الخاص بدرس الطهارة حرصه على وضوح خطة الدرس ووضوح تسلسل الأفكار وسلاسة الانتقال بينها.
بما يضمن عدم تشتت المعلم ومعه الطالب في بحر من المعلومات المتلاطمة مما يعيق إيصال المعلومة الصحيحة والمطلوبة.
ويعتبر هذا النوع من الإعداد والترتيب الذهني والعملي للأفكار السمة الأساسية التي يحكم عليها نجاح خطة التحضير من عدمه.
وذات السمة تتكرر في تحضير المعلم عبد العزيز لدرس التاريخ الإسلامي إذ يراعي فيه نفس الرؤية للدرس كمنظومة معرفية من المفاهيم يضاف إليها الحقائق الأحداث التاريخية. بداية نلاحظ أن المعلم عبد العزيز كما خصص الجزء الأول من دفتره لدروس الدين خصص جزءاًً آخر من دفتره لدروس التاريخ الإسلامي على النحو الذي نراه في الصفحة المقابلة.
وقد قارب المعلم عبد العزيز في تحديده لعنوان هذا الجزء من الدفتر المعايير المطلوبة في وقتنا الحاضر فيما يتعلق بتصميم غلاف دفتر التحضير. المطلوب الأول هو تحديد المجال العلمي وهو في هذه الحالة " تاريخ الأمم الأسلامية " يليه اسم المعلم وهو عبد العزيز عبداللطيف العثمان يليه مباشرة اسم الدولة " الكويت " , ويقابل ذكر اسم الدولة تطبيق المعيار الحالي من ضرورة إضافة شعار الدولة أعلى يمين الغلاف يليه ذكر وزارة التربية وتحديد المنطقة التعليمية والمدرسة التي ينتمي إليها المعلم. آخر مطلوب هو تحديد العام الدراسي وفي هذه الحالة دون المعلم عبد العزيز تاريخ اليوم الذي سيبدأ فيه شرح الدرس وهو 15/6/1946.
وبينما يطلب من المعلم في وقتنا الحالي تحديد العام الدراسي فقط على الغلاف وتدوين التواريخ اليومية أعلى الصفحة الأولى من تحضير كل درس على حدى.
يمكن تفسير تدوين المعلم عبد العزيز لتاريخ اليوم بدلاً من الاكتفاء بتحديد العام الدراسي بحقيقة أن المعلم عبد العزيز ارتأى توزيع خطة تحضيره على عدة دفاتر بحيث يشتمل كل دفتر على التحضير الخاص بالأسبوع لجميع المواد.
حتى إذا ما طوى المعلم عبد العزيز صفحة الغلاف يبدأ الدرس بتعريف ثلاثة مفاهيم رئيسية لا تعد مفاتيح أساسية للدرس فحسب بل للمنهج ككل ألا وهي:
التاريخ , فائدة التاريخ والأمة , وهي المفاتيح الثلاث التي يتشكل منها موضوع المنهج بأكمله - تاريخ الأمة الإسلامية - والهدف النهائي من تعلمه ودراسته. يلي تلك التعاريف تصنيف التاريخ وفق الأزمنة ومجال البحث إلى أن يصل إلى تصنيف أجناس البشر والانتقال من بعدها إلى تصنيف العرب. هذا التسلسل في الترتيب من الأعم إلى الأخص إنما يشكل مقدمة درس صحيحة تهيئ الطالب للدخول في هذا المجال وتعلمه وفق منهجية أكاديمية.
ويعد منهج التاريخ من المناهج التي تعتمد في جوهرها على شقين أساسين ألا وهما المفاهيم والحقائق. وعادة كما هو الحال في الدرس الذي نستعرضه يبدأ الشرح بتعريف المفاهيم الأساسية يليها سرد أو بحث أو مناقشة – يعتمد على أسلوب المعلم في الفصل وهو ما لا نستطيع التكهن به اعتماداً فقط على خطة الدرس في الدفتر – للحقائق وتفاصيل الأحداث التاريخية مقسمة إلى مراحل زمنية.
وبما أن المنهج يهدف إلى عرض تاريخ الأمة الإسلامية نجد أن المعلم عبد العزيز ابتدأ هذا التاريخ بمرحلة (حالة العرب قبل الإسلام لينطلق منها إلى المرحلة التالية ألا وهي (شروق الإسلام) مع مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وضرورة البدء بمرحلة ما قبل الإسلام إنما يحتمها أهمية تبيان الأثر العميق والجذري الذي تركه ظهور رسالة الإسلام في تاريخ العرب وتركيبته الاجتماعية للطالب حتى يتشكل في وعيه المنظور التاريخي الذي عليه أن يرى من خلاله مدى التنوير والحضارة التي انبثقت أشعتها مع بزوغ فجر الإسلام على أرض شبه الجزيرة العربية.
وعلى ذات المنوال الذي اعتمده المعلم عبد العزيز في دروس الفقه تم تقسيم عرض مراحل التاريخ الإسلامي المخطط لدراستها ابتداءً من ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مروراً بمراحل حياته قبل وبعد البعثة وعرض للغزوات الإسلامية انتهاءً بعصر الفتوحات الكبرى كما هو موضح في الصورة المقابلة.
قبل الاستمرار في تصفح دفتر التحضير للأستاذ عبد العزيز لا بد لنا من أن نقف على جانب مهم وحيوي في كتابة التحضير ألا وهو استخدام اللغة. تعد اللغة في أي بيئة تعليمية قناة الاتصال الرئيسية بين المعلم وطلابه التي اعتماداً عليها يتمكن المعلم من إيصال المعلومة بشكل صحيح لذهن الطالب. وبناءً عليه لا بد لأي معلم من أن يعتمد لغة واضحة يفهمها الطالب حتى تنجح عملية عرض المعلومة وتؤتي ثمارها. لكن شرط وضوح اللغة فقط لا يكفي إذ يستطيع المعلم حينئذٍ أن يكتفي باستخدام اللغة العامية في الشرح و ستكون فعلاً هي الأقرب إلى فهم الطالب وإدراكه. إذاً السؤال لم الإصرار على اعتماد اللغة العربية الفصحى في الشرح بدلاً من العامية وهو سؤال يطرحه عدد لا يستهان به من معلمي اليوم والجواب على هذا السؤال بسيط: اللغة هي منبر العلم ولسان الحق. فالمدرسة في حقيقتها تتجاوز الهدف الآني منها وهو التدريس وما يتبعه من تقييم للطالب وفقاً لنظام الاختبارات , المدرسة في روحيتها هي البوتقة التي يتشكل فيها فكر الطالب وعقيدته وثقافته وانتمائه ومفهومه للمواطنة , وموقع اللغة في هذا كله هو القلب.
فنظـرة واحدة إلى مخرجات التعليم من هـذا الجيل على جميع المستويات المحلية والعربية والدولية تبين لنا مدى فداحة الضعف الذي يعانيه الطالب عند تخرجه في التعبير كتابة أو خطابة بلغة صحيحة عن أفكاره ومعلوماته.وها نحن الآن نـرى العالم وهو يـدق ناقوس الخطر بعد أن اكتشف أن التقدم العلمي–المعلومـاتي والتقني–وحده لا يكفي لخلق مواطن صالـح ومنتج إن لم يزود هذا المواطـن بالوسيلة التي يتجدد عبرها هذا العلم الذي اكتسبه طوال سني دراسته ألا وهي اللغة.
واعتماد اللغة العربية الفصحى حصراً في الشرح ليس بالمطلب المستحيل فها هو المعلم عبد العزيز - مع زملائه من جيل المربين الأوائل - يعتمد اللغة العربية الفصحى في كتابة التحضير. ليس هذا فحسب بل بتصفح كامل دفتر التحضير تجد أن اللغة المستخدمة في الكتابة هي اللغة العربية في أبهى صورها في التعبير والإملاء والخط والالتزام بقواعد النحو و الصرف.
وهذا الإبداع في اللغة العربية الذي ميز ذاك الجيل من المربين الكويتيين لم يتأت من فراغ أو مصادفة بل هو وليد العلم المتوارث منذ أجيال عبر حضور حلقات العلماء الأجلاء في المساجد والتتلمذ على أيديهم والسعي وراء تحصيله من كافة بقاع الأرض. وهكذا عندما بدأت تجربة التعليم النظامي في الكويت كان لا بد أن يكون للغة العربية الحصة الأكبر في خطة التعليم إلى جانب الفقه. وبما للغة العربية من حظوة إلهية على لغات العالمين كونها لغة القرآن الكريم فهي علم بذاته متشعب إلى فروع لا بد لطالب العلم أن يقطف ثمارها حتى ينتفع بها.
ومن هذه الفروع التي حرص الكويتيون على نقلها لأبنائهم علم الخط . فقد جرت العادة منذ عهد الكتاتيب أن يتبارى الطلاب فيما بينهم في مجال الخط العربي بحيث يمثل كل طالب الكُتّاب الذي درس فيه , أما الحكم في هذه المباراة فيعود إلى تجار الكويت الذين حرصوا على أن يشاركوا في هذه التجربة التعليمية التي تماثل في وقتنا الحالي الأنشطة التربوية سواء كانت على مستوى المدرسة , المنطقة التعليمية أو الدولة. ويبين لنا هذا العرف الذي جرى عليه أبناء المجتمع الكويتي في إجراء المباراة مدى عمق التجربة التعليمية في وجدان المجتمع الكويتي قديماً والتي قد تبدو للوهلة الأولى تجربة بسيطة في ظاهرها, لكنها في الجوهر تماثل أسس التعليم النظامي الذي يقوم عليه مبادئ التعليم الحديث.
فعدا عن مسؤولية المدرسة تجاه الطالب من جهة توفير متطلبات التعليم الأساسي , تتحمل المدرسة أيضاً مسؤولية تطوير مهارات الطالب في المجال الذي يرى فيه هذا الطالب متنفساً لإبداعه ومنارةً لتميزه. ولطالما وفرت وزارة التربية في الكويت الأرضية الصالحة لنمو الطالب من خلال إعداد الأنشطة التربوية المتنوعة في أي مجال يختاره الطلبة و ذلك في ظل بيئة تنافسية شريفة بين المدارس يكون الرابح فيها دائماً هو الطالب الذي خاض التجربة وعايش أجواء المنافسة و السعي وراء التميز بغض النظرعن النتيجة النهائية.
نعود إلى أجواء التعليم في الكويت القديمة إذ ظلت مهارة الخط من المهارات التي تحظى بأهمية كبرى حين انتقلت التجربة التعليمية في الكويت من الكتاتيب إلى التعليم النظامي.
فها هو المعلم عبد العزيز يخصص الحصة الثالثة من اليوم لتعليم مهارة الخط حسب الجدول الدراسي. وقد اشتهر المعلم عبد العزيز بجمال الخط وحسنه وهو ما يظهر لنا جلياً أثناء تصفحنا لدفتر التحضير الخاص به.
إذاً المعلم عبدالعزيز على وشك أن يعلم الطلاب مهارةً هو مبدعٌ فيها. بحماسةٍ واندفاع يفتح المعلم عبد العزيز دفتر التحضير على الجزء الخاص بتحضير درس الخط ثم يتجه مباشرةً إلى اللوح حاملاً في يده اليمنى الطبشور الأبيض وفي يده اليسرى مسطرة خشبية طويلة يعرفها بعض الطلاب كعصا للضرب والعقاب لسعت أكف أيديهم مرات عدة لكن ليس وهي في كنف أستاذهم عبد العزيز.
ويعد تعليم المهارة أياً كانت نوعها من أصعب أنواع التعليم لما تتطلبه من صبر وأناة من جانب المعلم. ففي مجال تعليم المهارة تتمايز استجابة الطلاب وفقاً لتمايز قدراتهم وسرعة استيعابهم وأدائهم للمهارة داخل الفصل فتجد الطالب المتميز وكذلك الطالب المتوسط والضعيف.
فإذا أخذنا مهارة الخط على سبيل المثال نجد أنها مهارة عملية جمالية تعتمد على حركة اليد والأصابع من لين وشدة وضغط وسلاسة , وهذا كله يشكل ضغطاً على الطالب إلى أن يتمكن من التوفيق بين المهارات الحركية المطلوبة منه إتقانها. ولا يخفى على أحد أن المدة التي يأخذها أي طالب في إتقان مهارة معينة لا تتوافق بالضرورة مع المدة الزمنية التي يأخذها أقرانه من الطلاب للوصول إلى ذات النتيجة.
و لهذا كله كان صبر المعلم وحلمه مفتاحاً أساسياً في نجاح الطلبة بأكملهم في تعلم المهارة وإتقانها.
ها قد انتهى المعلم عبد العزيز من كتابة الحروف العربية على اللوح وسط إعجاب طلابه بخطه الجميل. ولم يغب عن بال المعلم عبد العزيز صعوبة تطبيق المهارة للمرة الأولى بشكل متقن فحرص على أن يتبع طلابه حركة يده و هو يخط الحرف بأناة وبطء حتى يتمكن الجميع من رؤية طريقة كتابة الحرف بالشكل الصحيح. بعدها تناول منديله ليزيل به أثر الطبشور الأبيض من راحتي يديه , ثم اتجه إلى آخر الفصل حيث المكان الأنسب لمراقبة أداء الطلبة في كتابة الأحرف على ألواحهم. من هناك وجد أن عدداً من الطلاب قد وهبهم الله ملكة الخط فها هم يتقنون ما علمهم اياه من المرة الأولى. وعلى الرغم من تقديره لمهارتهم الاستثنائية إلا أنه لن يجعل منهم مقياساً لتقييم أقرانهم من الطلاب الذين لا يحظون بهذه الملكة حتى لا يكون في ذلك ظلمٌ لهم. لكنه في الوقت ذاته لن يضن على هؤلاء الطلاب المتميزين حقهم في التشجيع فيتجه إليهم ويربت بيده على رأسهم قائلاً لهم بصوت خفيض وبابتسامته الأبوية المعهودة: بارك الله فيك ولدي.
يلتفت المعلم عبد العزيز إلى بقية الطلبة فيتجول بينهم بهدوء مراقباً مدى تقدم كل طالب فإن أدى الطالب مهارة الخط المطلوبة منه هنأه على عمله وإن تعثر أخذ بيده وحثه على المثابرة بعد أن يريه الطريقة الصحيحة لكتابة الحرف. هكذا يكون المعلم صبوراً ومشجعاً فلا يهمل الطالب المتعثر فيشعره بالضعف ولا يتجاهل الطالب المتفوق فيحرمه من التشجيع. كادت الحصة الثالثة أن تنتهي وبعد دقائق معدودة سيهرع الطلاب خارج الفصل وخارج سور المدرسة حيث ينتظرهم أهلهم لتناول الغداء. لم ينته اليوم الدراسي بعد, فلا تزال هناك حصتان يعود فيها الطلاب إلى المدرسة في المساء كما جرى عليه نظام التعليم في الكويت حينذاك حيث تقسم حصص اليوم إلى فترتين صباحية ومسائية. ينظر المعلم عبد العزيز في جدول الحصص المدون على دفتر التحضير, الحصتان المتبقيتان لليوم هما اللغة الانجليزية والمطالعة. تتسارع الصفحات بين أصابع عبدالعزيز إلى أن تقف عنـد تحضيره لدرس اللغة الانجليزية وشتان ما بين تعليم اللغة العربية وهـي اللغة الأم وتعليـم اللغة الانجليزية كلغة أجنبية ثانية.
وعلى الرغم من حداثة تجربة التعليم النظامي في الكويت فقد فرض واقع المجتمع الكويتي ضرورة تعليم اللغة الانجليزية كمادة أساسية لما تلعبه من دور مهم في يوميات التجارة الكويتية التي وصلت رحالها إلى شبه القارة الهندية وأفريقيا كذلك لما وجب أن تقتضيه الحياة السياسية والاقتصادية في الكويت آنذاك من معرفة للغة الانجليزية كقناة تواصل خصوصاً بعد توقيع معاهدة الحماية مع بريطانيا ووجود الشركات الأجنبية في مجالات عدة أهمها مجال التنقيب عن النفط. ولذلك لم يكن المطلوب التعمق في دراسة اللغة الانجليزية بكافة تشعباتها اللغوية والأدبية كما هو الحال مع اللغة العربية , بل اقتصر تعليمها فقط كمهارة تواصل مطلوبة مع الآخر بحيث يتم تجاوز عائق اللغة بما ينفع مصالح الدولة العليا ومصالح المجتمع الكويتي في تعاملاته اليومية.
وعليه إذا ما ألقينا نظرة على تحضير المعلم عبد العزيز لدرس اللغة الانجليزية لهذا الأسبوع نجد أن التحضير عبارة عن قوائم من ثلاث خانات: الخانة الأولى من اليسار هي المفردة الإنجليزية , يليها إلى اليمين نطق المفردة بالحروف العربية المشكلة
وتنتهي بخانة المرادف العربي- معنى الكلمة - وعلى الرغم من تنوع المفردات الانجليزية في مجالاتها (الفصول والزمن – المدرسة – الوظيفة – الطهي) إلا أن جميعها تقع تحت خانة مفردات الحياة اليومية التي لا بد أن يأتي استخدامها في أي وقت من خلال التعامل اليومي.
إذا اعتماداً على تحضير المعلم عبد العزيز فإن المهارات التي سيتعلمها الطلاب خلال الدرس هي قراءة المفردات , نطقها وكتابتها بالشكل الصحيح وترجتمها إلى مرادفها العربي , أي ما يماثل في وقتنا الحالي وفقاً لمنهج اللغة الإنجليزية الحديث Vocabulary – Spelling – Translation.
وعلى الرغم من عدم وجود ما يدل على تعليم القواعد الخاصة باللغة الانجليزية في دفتر التحضير الموجود بين أيدينا إلا أن المنطق يفرض علينا أن نستنتج أن في مرحلة ما قد تكون لاحقة سيقوم المعلم عبد العزيز بتعليم بعض الأسس البسيطة في قواعد اللغة الانجليزية التي تمكن الطالب من تكوين جمل مفيدة و فقرات بسيطة مترابطة ضرورية في أسس التواصل على المستوى الرسمي.
انتهى درس اللغة الإنجليزية لليوم و بانت على وجوه الطلاب بشائر السرور والحماس , ليس لأن اليوم الدراسي الطويل قد أوشك على الانتهاء بل لأن الجميع متحفز لسماع ما حصل من حكاية الشاب الجميل والمرابي اليهودي.
ما هي إلا ثوانٍ ويتحلق الطلاب حول أستاذهم عبدالعزيز كعادتهم في حصة المطالعة متربعين على الأرض وأعينهم شاخصةٌ إلى دفتر التحضيرالمغلق في يد معلمهم.
يفتح عبدالعزيز الدفترعلى الصفحة الأولى ويبدأ يقلب في صفحاته الواحدة تلو الأخرى ببطء وروية إلى أن يصل إلى القصة المدونة في آخر الدفتر.
عند النظر إلى الوراء دائماً ما احتلت تلك اللحظات التي اعتادت أن تسبق روايته للقصة مكاناً مميزاً في مهنته كمعلم , تلك اللحظات التي يرى فيها تلهف طلابه لسماع ما لديه من حكايات ظاهرها المغامرة والعجائب وباطنها الحكمة والعبر. وقصة اليوم هي إحدى تلك القصص التي ينطبق عليها هذا الوصف. فهي قصة شاب جميل أراد أن يدخل عالم التجارة فاقترض من مراب يهودي ستون ألف روبية مقابل أن يسدد له المبلغ المطلوب في موعده المحدد وإلا قطع المراب من لحمه ما يساوي وزنه أوقية.
وتمر أحداث القصة و يخسر الشاب تجارته وقد قرب أجل تسديد الدين للمراب اليهودي إلا أن الأميرة التي أحبها في أسفاره ستتكفل بإنقاذه عن طريق حيلة تخرجه من ذاك الاتفاق. ولا بد أن قارئ هذا الكتاب قد تعرف إلى ملامح القصة التي يرويها المعلم عبد العزيز لطلبته ألا وهي "تاجر البندقية" إحدى مسرحيات شكسبير الشهيرة. وعليه قد نفترض من قراءة أحداث القصة وفق ما كتبها المعلم عبدالعزيز في دفتره أنه اقتبس من المسرحية ولم ينقل أحداثها كما هي حرفياً إذ يبدو أنه حرص أن تكون أجواء القصة أقرب ما تكون إلى بيئة الطالب وثقافته وهو أمرٌ لا ضير فيه. ولطالما كانت رواية القصص أداة تربوية وتعليمية ناجعة تجذب انتباه الطالب وتغرس فيه الحكمة خارج إطار الموعظة والنصح المباشر.
ويعتمد نجاح هذه الأداة على مهارات المعلم الشخصية في سرد الرواية ومدى قدرته على جذب انتباه الطالب إلى ما يجري من أحداث ليستنتج منها العبرة والحكمة , ومدى تمتع المعلم عبدالعزيز بهذه المهارات وتطبيقها داخل الفصل.
هو أمرٌ لا نستطيع التيقن منه لكن يمكن الاستدلال عليه مما عرفناه عن عبد العزيز وما قرأناه في دفتر التحضير. فقد عُرِف عبدالعزيز بجمال صوته وحسن إلقائه وهما ملكتان لا بد منهما في السرد القصصي , وإن امتلك عبد العزيز هاتين الملكتين فهو يملك ما يفوق كليهما ألا وهي عاطفة الروائي وشغف الكاتب , ففي اختياره للقصة وأسلوب تدوينه لها على دفتر التحضير ما يكشف لنا عن واسع اطلاعه ومدى ثقافته وعمق موهبته. فهي قصة مستمدة من التراث الأدبي العالمي تطوي بين صفحاتها عناصر الخير والشر والحب والحيلة تدور رحاها في حبكة مثيرة عولجت بما يتناسب وعقلية الطالب دون أن تقضي على جوهرها. فإذا ما اجتمعت تلك المهارات في المعلم أثناء تحضيره لحصة المطالعة صبت النتيجة في مصلحة الطالب الذي سيخرج من الفصل وقد اكتسب عبرة من عبر الحياة ترسخ في ذهنه مع أحداث القصة وشخصياتها.
وعدا عن الجانب التربوي , فإن سماع القصص وقراءتها من شأنها أن تنمي ملكة الخيال والإبداع في عقول الطلبة خصوصاً إن أنعم الله عليهم بالموهبة الأدبية وما يتبعها من حاجة لا شعورية لإشباع هذه الموهبة وممارستها وهو ما يعيه المعلم عبد العزيز جيداً هو الذي ينتمي إلى عائلة توارثت حب الأدب وموهبة الكتابة جيلاً بعد جيل. وقد أشار الأستاذ عبدالله النوري في كتابه " قصة التعليم في الكويت " إلى شغف عبدالعزيز بالشعر منذ أن كان طالباً لديه في القسم الخامس في المدرسة المباركية , هذا القسم الذي حبب إليه أن يسميه " قسم الأدباء ".
ويعود السبب في التسمية كما ذكر الأستاذ عبدالله النوري إلى قلة عدد الطلبة الذين يصلون إلى المرحلة العليا في التعليم في مدرسة المباركية والمتمثلة بالقسم الخامس حيث لم يتجاوز العدد يوماً السبعة طلاب من بينهم الشاعر فهد العسكر والأستاذ يوسف العمر. وطالما تميز هؤلاء الطلبة بملكة علمية أدبية دفعت معلمهم الأستاذ عبدالله النوري إلى الاحتفاظ بمجموعة من كتاباتهم ومنظوماتهم لسنوات طويلة ومن بين تلك الكتابات ما هو خاص بالطالب عبدالعزيز العثمان أثناء دراسته في المباركية عام1346هـ الموافق سنة1928م والمتمثلة في الأبيات التالية:
لاح لي كالنجم زاهر فوق أعواد المنابـر
منشـداً لحناً شجيـاً ذاكراً فيه المفاخـر
يطرب الأسماع مني و به أنسى الخواطر
غـن لي غن نشيـداً و أحي للعرب المآثر
ولا بد أن لهذا التشجيع الذي لقيه الطالب عبدالعزيز من معلمه الأستاذ عبدالله النوري دوراً كبيراً في تشكيل شخصية المعلم التي نضج إليها عبدالعزيز لاحقاً. فبادرة الأستاذ عبدالله النوري المتمثلة بالاحتفاظ بأعمال طلابه الأثر الأكبر في تعزيز الثقة بالنفس لدى الطالب ودفعه للمضي قدماً في صنع مستقبله حتى وإن اختار الطالب الحياة العملية عوضاً عن المضي في التجربة الأدبية بشكل محترف. فالمعلم ليس بناقد أدبي لكن في قلب كل طالب يكمن هوىً هو المتنفس لديه للتعبير عن مكنونات نفسه بغض النظر عن مدى احترافية هذا الهوى وقدرته بالوصول بصاحبه إلى مصاف الأدباء والشعراء والرسامين وغيرهم إذ يكفي أن يجد الطالب في معلمه احتراماً لأسلوبه في التعبير عن ذاته لأن هذا الاحترام في ذهن الطالب هو احترام لشخصيته وتفرده من شأنه أن يعزز ثقة الطالب بنفسه وبقدرته على الإبداع والعطاء في أي مجال يختار حتى إذا ما كبر الطالب ودخل معترك الحياة بحلوها ومرها ظل هذا الهوى هو المتنفس والصديق والذكرى التي يلجأ إليها.
فها هو المعلم عبد العزيز يخصص جزءاً من دفتره لتدوين مجموعة من قصائده التي كتبها في شبابه و التي استهلها بكتابة الأسطر التالية:
" بسم الله والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فإني أرقم ما اقترحته فكرتي في إبان شبابي من الشعر وأنا الضعيف وهذه الأبيات هي أول ما اقترحتها وها هي " :
وعند قراءة هذه المجموعة المدونة يتضح لنا ما كان يؤمن به من مبادئ وأفكار وتوجهات ثقافية. فقد كتب قصائده في فضائل العلم والمدرسة والصدق وحب الوطن , وفي الضفة الأخرى هجا الجهل والظلم.
كذلك تضمنت مجموعته عدداً من القصائد ذات البعد السياسي منها قصيدة في رثاء سعد زغلول باشا وقصيدتان فيما " أصاب الشرق من انحطاط وتدهور ".
أيضاً هناك القصائد التي تتولد من قريحة الشاعر عند تفاعله مع حدث ما قد يكون اعتيادياً إلا أنه يلهم الأديب ويدفعه للاحتفاظ بتلك الذكرى العابرة في ذاكرة الزمن كما فعل عبد العزيز في قصيدته القصيرة " في الشكوى من الحر " والتي يقول فيها:
هجــم الحــر علينـا هجــمـةً فرقـت أجسادنا يـوم الأحـد
جعلــت أجســادنـا سائلـــة يا لهـا من هجمـة ذات نكـد
صيــرت أفكــارنا جاــمـدة جاءنـا منها فتور فـي الجسد
قلبـت رؤوسـنـا من حرهـا قبضت نفسي وصرنا في كبد
سالـت الأجساد من ماء بها كل هذا كـان في يوم الأحـد
ثـم هبـت نفحــة مـن قبلــة أطلقتنـا كلـنا مـن ذا الكمـد
كما وقد اتضح لنا من خلال مراجعتنا لكشف ميزانية مدرسة العثمان أن المعلم عبد العزيز قد كتب قصيدة في مدح الملك عبدالعزيز آل سعود نالت المدرسة على إثره تبرعاً مالياً من الملك بقيمة 200روبية. إذاً عبدالعزيز مَلَك الموهبة لكن يبدو أنه لم يجد شغفه الأدبي في إلقاء القصائد بل في تلك اللحظات التي تسبق روايته لحكاية الشاب والمرابي اليهودي.
ولا بد أن هذا الجانب الأدبي في شخصية عبدالعزيز قد ترك أثراً بالغاً في مسيرته كمعلم , فهذه القصائد تعكس مدى ثقافته وتأثره بما يجري في البيئتين المحلية والعربية وهكذا تأثر وانفعال لا يمكن إخفاؤه عن الطلاب الذين يتفاعلون مع معلمهم معظم ساعات اليوم. فالطالب لا يكتفي بتعلم فقط ما يلقنه اياه معلمه أثناء الشرح , بل يتعلم مما يراه من معلمه من سلوك وفكر ورأي.
فأي منا ممن حفر في ذاكرته مكاناً لأحد معلميه إنما فعل ذلك لموقف رآه من هذا المعلم و ليس لمعلومة شرحها له. وعليه كان لا بد للمعلم أن يكون رجل علم وتنور حتى يؤدي رسالته الحقيقية في المجتمع ويكون له التأثير الأكبر في رسم خارطة الطريق للجيل المقبل.
ربما قد يعترض البعض على مقارنة عبدالعزيز برجال العلم على النحو المتعارف عليه , لكن يمكن القول وبلا أدنى شك أن الأستاذ عبدالعزيز العثمان كان معلماً حقيقياً سعى بقدر استطاعته وبكل ما نبض به قلبه من محبة واحترام تجاه طلابه أن يؤدي حقهم عليه فيكون لهم مثال الأخ والأب والمرب الناصح.
نتهى اليوم الدراسي وذهب كل من الطلبة في طريقه وبقي عبد العزيز وحده في الفصل. في مخيلته لا ينتهي اليوم الدراسي أبداً فهو في هذه اللحظات يقف أمام طلبته يراجع كل ما صدر عنه وعنهم, ربما قسا على الطلبة المتأخرين , ربما كان من الأفضل لو لم يطل الشرح في الأحكام فيمل طلبته , حبذا لو استطرد في تفاصيل مولد الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم استجابةً لرغبة الطلاب , هل استطاع أن يساعد أحمد على تخطي خوفه من الكتابة , أكانت قصة اليوم ممتعة ومفيدة أم خاب ظن الطلبة فيه بعد لحظات الترقب واللهفة . سيلٌ من الأسئلة توقفت على صوت عصا أخيه الملا محمد وهي تضرب الأرض بوقارٍ يماثل وقارَ صاحبها. يبتسم عبدالعزيز كأنما يودع طلبته ويعدهم بيومٍ دراسي أفضل ثم يخرج من الفصل منادياً على أخيه الملا محمد أن ينتظره دون أن ينسى أن يحمل في يده دفتر التحضير.
***
من أشعار الاستاذ/عبدالعزيز عبداللطيف العثمان
- بسـم اللـه -
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فإني أرقم ما اقترحته فكرتي في ابان شبابي من الشعر وأنا الضعيف وهذه الأبيات هي أول ما اقترحتها وها هي لصاحبها الأستاذ عبد العزيز عبداللطيف العثمان.